والعلم ينقسم إلى قسمين: علم انتشر بين المسلمين، وعلم لم ينتشر، والعلم الذي لم ينتشر إنما يأمر فيه وينهى العلماء، أو من أخُبر من قبَلهم أن هذا مما يشرع فيه الإنكار، أو أنه أمر مجمع عليه، أو أمر لا يسوغ فيه الخلاف، وبالتالي عليه أن يدعو ويأمر وينهي في هذا الأمر حتى ولو لم يكن منتشراً.
إذاً: فهذان شرطان أساسيان يجب توفرهما إذا أراد العامي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيما لم ينتشر علمه وسط المسلمين.
فالعامي لا يأمر ولا ينهى إلا فيما يعرفه الصغير والكبير؛ لأن كل الناس يعرفون وجوب الصلوات الخمس، وكثير من الناس لا يصلون فيتركونها حتى يخرج وقتها، وينامون عن صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، نسأل الله العفو والعافية، بل إن كثيراً من الناس الذين يقولون: نحن نصلي، تجد أحدهم يصلي آخر النهار كل الصلوات مع بعضها، ويترك ما أوجب الله عليه من الصلاة في وقتها، وربما يجمع صلاتين مع بعضهما، وهذا أمر معتاد لدى الكثيرين من الناس، ولا حول ولا قوة بالله.
وأيضاً لا بد أن يسمع العامي فتوى العلماء في حكم هذا الأمر الذي ينكره، ويسمع الدليل على ذلك، ويعرف أن المسألة ليس فيها خلاف سائغ، أو ليس فيها خلاف أصلاً، ففي مثل هذا يسوغ للعامي أو الذي لم يبلغ مراتب العلماء أن يأمر وينهى، فضلاً عن طالب العلم المميز، الذي هو في الحقيقة قد جمع كثيراً من المسائل وعرف الراجح من أقوال العلماء بأدلتها، وعرف ما يسوغ الخلاف فيه وما لا يسوغ، فهو في هذه المسائل التي قد جمع أدلتها ملحق بالعلماء، والتي لم يجمع أدلتها هو فيها ملحق بالعوام، فينظر فيما أفتاه به العالم، ولكن الشرط -كما ذكرنا- أن يفتي العالم ليس فقط بأن هذا الأمر واجب أو هذا الأمر محرم، بل لابد أن يفتي أيضاً بأن هذا الأمر مما يسع فيه الإنكار ولا يسوغ فيه الخلاف، أو إنه مما أجمعت عليه الأمة فلا عبرة بمن يخالف في ذلك.
وأما ما فيه خلاف سائغ وهو ما لا يصادم البينات، أي: لا يخالف النص من الكتاب أو السنة أو الإجماع القديم أو القياس الجلي، فإن هذا يجب التوقف عن الإنكار فيه؛ لأنه يسع فيه الخلاف، فلا ينكر إلا بمجرد المناظرة العلمية ولا يسمى إنكاراً في الاصطلاح.
وأما إذا صادم الخلاف نصاً من كتاب أو سنة، أو صادم إجماعاًَ قديماً أو قياساً جلياً فإن الإنكار على من فعله واجب، كمن رأيته مثلاً يبيع الأرز بالأرز مع التفاضل، فهذا نوع من الربا، وقول الظاهرية في جوازه غير معتبر؛ لأن قياس الأرز على القمح قياس جلي واضح، ولو وجدت إنساناً مثلاً يزرع أرزاً ولا يخرج الزكاة، ويقول: الزكاة وردت في القمح والشعير والزبيب والتمر، ولم ترد في الأرز، فلن أخرج الزكاة فيه، فلا شك في أنه ينكر عليه إنكاراً شديداً، ويؤمر بإخراج الزكاة.
ولو وجدت إنساناً لا يخرج زكاة الأوراق النقدية، ويقول: الزكاة في الذهب والفضة، فلا أخرجها في الأوراق النقدية ولا في عروض التجارة، وهو تاجر بالملايين، ولكن البضاعة عبارة عن سلع وأوراق مالية، وليس عنده ذهب ولا فضة، فلو حدث هذا، لأنكر عليه أغلظ الإنكار، بل ربما ضُلل وفُسق بسبب هذا؛ لأن هذا القياس من أجلى أنواع القياس؛ فإن هذه الأوراق المالية هي بمنزلة الذهب والفضة، وأما عروض التجارة فهي رءوس أموال الناس في التجارة، فهذا ينكر عليه لأنه خالف القياس الجلي، ومن باب أولى إذا خالف الإجماع.
مثلاً: إذا ثبت إجماع قديم كإجماع السلف على عدم تأويل الصفات، فالذي يؤول الصفات بعد أن يعلم هذا الإجماع يبدع، ولذلك ينكر عليه أن يقول بذلك، وهكذا من يخالف إجماع أهل السنة في أي مسألة من مسائل الاعتقاد الكبرى؛ كتكفير المصر على الكبيرة مثلاً أو تكفير مرتكب الكبيرة، أو كونه مثلاً يجعل الإيمان قول بلا عمل، أو اعتقاد بلا عمل، وغير ذلك مما اتفق عليه السلف الصالح، فخالفهم في ذلك فيعد مخطئاً وخلافه باطل.
وأما مصادمة الخلاف للنص فمثاله: عندما تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فلو قيل: البيرة ليست حرام؛ لأنها مصنوعة من عصير الشعير، وإنما الخمر تكون من العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، فنقول: هذا أمر ينكر على قائله، بل ويحد شارب البيرة شرعاً؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر وكل خمر حرام)، وقال عليه الصلاة والسلام: (نزل تحريم الخمر وهي من خمسة، فذكروا أصنافاً).
إذاً: فالخمر ليست فقط عصير عنب، بل من ضمنها الشعير وغيره، وقد وردت النصوص الصريحة الواضحة في أن الخمر كل ما أسكر، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، فلا عبرة بقول بعض العلماء المتقدمين ممن لم يبلغهم الحديث صحيحاً؛ في أن غير عصير العنب جائز الشرب إذا كان قليلاً ولم يسكر، فهذا كلام باطل.
مثالاً آخر: ابن حزم يجوز الموسيقى والغناء، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - كما سبق معنا- أنه قال: (ليكونن قوم من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، فالمعازف محرمة بهذا، واستحلال الخمر بتسميتها بيرة خلاف غير معتبر، واستحلال المعازف أو القول بأنها لم يرد فيها نص كلام غير معتبر؛ لورود النص بذلك وضعف قول من يحتج بجوازه مثلاً بغناء بعاث؛ لأنه كان بغير آله، واستحلال الحر الذي هو الفرج بنوع شبهة؛ باطل باتفاق العلماء، وهذا يفعله كثير من الشباب اليوم في قضية الزواج العرفي، بأن يتزوج بغير ولي وربما بغير شهود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنحاكها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها)، والقول بأن هذا الأمر فيه خلاف، لأن بعض المشايخ المتقدمين أفتى بأن الزواج يقاس على البيع والشراء فيجوز أن تنكح المرأة بلا ولي طالما كان هناك شهود، فهذا القول باطل لا عبرة به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (نكاحها باطل)، فلا عبرة بمن يخالف، وإن كان هذا قد يمنع إقامة الحد لوجود الشبهة، خصوصاً مع انتشار الجهل، لكن من علم بطلان هذا النوع من الزواج وأقدم عليه، فالصحيح أنه يقام عليه الحد شرعاً؛ لأنه يعلم أنه يقدم على زنا والعياذ بالله من ذلك.
إذاً: فإذا صادم الخلافُ النصَّ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي فلا عبرة بالمخالف، ولذلك يشرع الإنكار، والعلم بفتوى عالم لابد أن تتضمن ذلك، والعالم نفسه لا يجوز له أن ينكر إلا ما خالف البينات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، فذم الخلاف بعد البينات، وأما قبل البينات فهو خلاف معتبر، كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم، وكما ذكر الله عز وجل قبل ذلك اختلاف سليمان وداود فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79].
فهذا هو المنطلق الأول وهو منطلق العلم، ويعتبر من أعظم المنطلقات للدعوة إلى الله.