الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن الله عز وجل قد بعث رسله مبشرين ومنذرين، فأرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جعل الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الرسل أشرف المهمات، وهي مهمة إرشاد الخلق إلى طريق الحق، مهمة تذكير الناس بربهم وتعريفهم بحقوقه سبحانه وتعالى، وتذكيرهم بلقائه عز وجل.
ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم آخر النبيين وخاتم المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا نبي بعده فقد ورثت أمته من بعده هذه المهمة العظيمة، فكانت وظيفتها هي وظيفة أنبياء الله سبحانه وتعالى في التذكير بآيات الله وتعليم الناس الكتاب والسنة، وفرض الله عز وجل عليها أن تكون معلمة للأمم كلها وشاهدة عليهم، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، فالله عز وجل جعل مهمة الأمة الشهادة على الأمم، كما إن الرسول صلى الله عليه وسلم شهيد عليهم، إنما كان شهيداً عليهم بما علمهم وبلغهم وذكرهم وأمرهم به من المعروف ونهاهم عنه من المنكر، وهم كذلك من باب أولى، أي: إنما يكونون شهداء على الناس إذا قاموا بهذه المهمة، أما إذا لم يقوموا بها فكيف يشهدون على الناس وهم لم يبلغوهم ولم يذكروهم ولم يأمروهم ولم ينهوهم؟ ولذلك نقول: إن وسطية هذه الأمة -ومعنى الوسطية الخيرية- إنما هي مرتبطة بقيامها بهذه الوظيفة؛ وظيفة الدعوة إلى الله، قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وليس بمستغرب أن يبدأ في هذه الآية الكريمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم يعقب ذلك بالإيمان بالله، مع أن الإيمان بالله أعظم أهمية في نجاة الإنسان، وأعظم واجب عليه في وجوده كله، ولكن لأجل أن هذا المقام مقام بيان وجه خيرية هذه الأمة، على سائر الأمم؛ لأن خيرية هذه الأمة على الأمم إنما يظهر من خلال أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولا يكون ذلك بدون الإيمان، فإن الدعوة بدون الإيمان شجرة خبيثة لا حقيقة لها ولا ثبات ولا استقرار، وإنما قدر الدعوة إلى الله وثمارها على قدر الإيمان الذي يكون في القلوب، ولكن يظهر للناس أثر الإيمان من خلال الدعوة إلى الله، ومن خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك لابد لهذه الأمة أن يكون فيها هذا الواجب الذي لا يسعهم تركه جملة، بل لو تركوه أثم كل قادر بحسب قدرته، كما بين ذلك أهل العلم، وهذا معنى فرض الكفاية.
وقد ذكرنا قبل أن فرض الكفاية في هذا المقام معناه أن يوجد المعروف الواجب وأن يزول المنكر المحرم في الناس، فإذا حصل ذلك حصل القدر الواجب، وإلا أثم كل قادر بحسب قدرته.
والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لها منطلقات ثلاث لابد لكل داع إلى الله عز وجل أن يحصلها، وأن تكون من صفاته الأساسية في أخلاقه ومعاملاته مع الناس؛ وذلك لأن نجاح الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مرتبط بصفات معينة.
المنطلق الأول: في قول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
المنطلق الثاني: في قوله سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
المنطلق الثالث: في قوله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:125 - 128].
وحقيقة هذه المنطلقات: أن الآية الأولى دلت على وجوب العلم والبصيرة؛ وذلك أن الداعي إلى الله لابد أن يكون داعياً إليه على بصيرة وأساسها العلم.
ونأخذ من الآية الثانية: أن يكون الداعية حليماً، وإلا فسيفشل في دعوته.
أما الآيات الأخيرة: ففيها الأمر بالصبر، فلابد أن يكون الداعية صابراً، فالعلم قبل الدعوة، والحلم معها والصبر بعدها، ولا شك أن ما كان قبل يمتد بعد ذلك، فليس العلم منزلة تتركها، بل تبقى معك إلى نهاية الطريق.