الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أما بعد: فقال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:176 - 180].
قال ابن كثير رحمه الله في قوله: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) أي لابد أن يقدر سبباً من المحنة يظهر فيه وليه ويفتضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصادق والمنافق الفاجر، وذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين؛ فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم، وطاعتهم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهتك به ستر المنافقين؛ فظهرت مخالفتهم للدين، ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) قال مجاهد: ميز بينهم يوم أحد.
وقال قتادة: ميز بينهم بالجهاد والهجرة.
وقال السدي: قالوا: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً فليخبرنا عمن يؤمن به منا، ومن يكفر، فأنزل الله تعالى: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)) أي: حتى يخرج المؤمن من الكافر، يخرجهم أمام الناس، روى ذلك كله ابن جرير.
ثم قال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)) وهذه أي: أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك.
ثم قال تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)) كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26 - 27].
ثم قال تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)) أي: أطيعوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتبعوه فيما شرع لكم، ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ))].
هذه الآية الكريمة وردت في بيان حكمة الله عز وجل فيما قدر من المحنة على المؤمنين يوم أحد، وكذلك كل ما يقدره الله عز وجل من أسباب المحن التي تجري لأهل الإسلام تجري عليهم وهي في مصلحتهم، كما قال عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] فكل هذه الأمور من البلاء والهزيمة والآلام للمسلمين فيها مصلحة، وكذلك النصر والتمكين والعز وقهر الأعداء فيها للمسلمين مصلحة.
وقد بين عز وجل حكمة تقديره البلاء عموماً في يوم أحد وما بعد ذلك وما قبله، فله سنته الماضية سبحانه وتعالى بأنه يقدر الأسباب التي يحصل بها التمييز الظاهر بين المؤمنين والمنافقين.