تمر بالأمة أزمات متعددة، كما مرت بها قبل ذلك محن طويلة، وإنما كان الإصلاح بصلاح قلوب طائفة من الأمة، فإذا صلحت ظهرت، فكان حالهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)، وإنما يتفاوت الظهور على حسب تفاوت معاني الإيمان في القلوب، وليس فقط على معرفة الألسنة بالكلام، ومعرفة العقول بالقضايا، ولا شك عندنا بأهمية الفهم الدقيق، ولا شك قطعاً في أهمية الكلم الصحيح الطيب، لكن لا ريب أن ذلك كله مرتبط بحال القلب.
وانظروا كيف تعلم الصحابة الإيمان، ثم تعلموا القرآن؛ فازدادوا إيماناً بفضل الله سبحانه وتعالى، والقرآن من أعظم أسباب زيادة الإيمان، ومن أعظم أسباب إزالة أمراض القلوب، قال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].
وهذا كله يحصل بكثرة تدبر القرآن، والإيمان به حق الإيمان أي: أن تعمل بمحكمه، وتؤمن بمتشابهه، وتصدق أخباره وتستحضرها كأنك تراها، ففيما مضى من الأحداث وأخبار الرسل والصالحين، وأنواع الصراع الذي جرى بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وبين أهل الحق وأهل الباطل عبر شتى وفوائد.
ومعنى تستحضره أي: كأنك حاضر فيه، وتستشعر معاني الإيمان التي كانت هي الوقود الذي سار به أهل الإيمان في طريقهم تلك، وكانت هي النور الذي استبصروا به، فرأوا الحق حقاً والباطل باطلاً.
كذلك يكون تدبرك للقرآن بأن تستحضر ما تستقبل من أمور الآخرة، من أمر الجنة والنار، وأهوال القيامة، والحساب والميزان والصراط، كما دلت عليه الأدلة من القرآن السنة.
وكذلك تتدبر القرآن بأن تستحضر آثار أسماء الله عز وجل وصفاته، بل هذا هو المقدم على ذلك كله؛ لأنه تحقيق الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فتستحضر ربوبيته وملكه لهذا الكون، وأمره النافذ فيه، وتستحضر إلهيته، وأنه سبحانه وتعالى هو وحده المستحق للعبادة، وأن كل ما يعبد من دونه باطل، وأن كل عبادة لغيره عناء وشقاء، وتستحضر منة الله عز وجل عليك ونعمته الظاهرة والباطنة، فبهذا يحصل لك تدبر القرآن، وتزداد معاني الإيمان، لكن هذا يحتاج منك إلى قلة خلطة بالناس ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وليس ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم من احتجار الحصير إلا تقليلاً لهذا الاختلاط، وذلك الذي ينبغي أن تفعله، وكثير من الناس يجعل الاعتكاف موضع عشرة وخلطة! والأمر ليس كذلك؛ لأن الأمر ليس مبنياً على أحوال البدن بقدر ما هو مبني على حال القلب، فاجتهد أن تخلص نيتك لله عز وجل، وأن تشغل فكرك بأمره، وأن تشغل اهتمامك بالآخرة وما يكون فيها، وأن تفتش في نفسك، وتجتهد في إصلاح عيوبها، فليس صحيحاً ولا صواباً منك أن تجتهد في أن تأتي المسجد وقلبك قد امتلأ بأنواع الأمراض المختلفة، نعوذ بالله من ذلك.
فاجتهد أن تتخلص من هذه الأمراض، وفتش في نفسك هل الحقد والحسد والرياء والسمعة تابعاً فيها؟ وفتش في قلبك عن الغفلة وعن سائر الأمراض، ثم اعمل على التخلص منها فوراً بقدر استطاعتك حتى تلقى الله سبحانه وتعالى وقلبك قد تطهر، فتنال من كتاب الله سبحانه وتعالى ما تزكو به نفسك.
قال عثمان رضي الله تعالى عنه: لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله.
وقال ربنا سبحانه وتعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:75 - 79].
ومن وجوه تفسيره: أن الكتاب المكنون هو الذي في السماء ولا يسمه إلا الملائكة المطهرون، ومن وجوه تفسيره -وهو من لوازم تطهير الكتاب وكونه كتاباً كريماً-: أنه لا ينال من نعيمه، ولا يدرك معانيه، ولا يتعظ بما فيه إلا من تطهر قلبه، والوجه الأول هو أصح التفاسير، والثاني تفسير حسن طيب، وهو من لوازم الأول، فلا يمس القرآن إلا من تطهر قلبه، أي: لا يجد حلاوته ولا يذوق طعم الإيمان إلا من تطهر قلبه، فإذا كانت بينك وبين إخوانك شحناء فاعلم أن ذلك من أعظم أسباب بعدك عن لمس معاني كتاب الله، وعن أن تدرك ما فيه.
فهذه الملاحاة والخصومة يجب أن تسعى في إزالتها، فلقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه يوماً وهو يريد أن يخبرهم في سنة من السنوات بليلة القدر أي ليلة هي، فتلاحا رجلان -أي: تجادلا- فرفعت، وعسى أن يكون ذلك خيراً؛ حتى تطلب في الليالي كلها، وكما أن اختلاف مطالع الهلال عند المسلمين في هذا الشهر قد يؤلم البعض، ولكنه عسى أن يكون خيراً؛ فإن الناس يطلبون ليلة القدر في الليالي كلها، فتجد أن ليالي الأوتار عندنا، ليالي أشفاع عند غيرنا وبالعكس، فينبغي أن تهتم بالليالي كلها، وأن تجتهد فيها، واجتنب الملاحاة والخصومة، واجتنب المجادلة ما استطعت إلا ما أمر الله عز وجل به من الجدال بالتي هي أحسن، الذي شرعه الله لإظهار الحق، وكثير من أنواع الجدال بيننا إنما هو وللأسف ليس بالتي هي أحسن، وإنما يوقع العداوة والبغضاء فينبغي تركه، فاجتهد في إصلاح القلب، وتهذيب النفس وتطهيرها حتى تمس معاني القرآن، وتجد طعمه وحلاوته، والله المستعان، وهو سبحانه وتعالى الذي يمن على من شاء من عباده بما شاء من عطائه، وأنت تعبده وتسعين به كما نقول في الصلاة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
فمن استطاع منكم أن يقضي العمر والأجل في طاعةِ الله فليفعل، واعلموا أنكم لن تنالوا ذلك إلا بإعانةٍ من الله عز وجل وتوفيقه وفضله وجوده، ولن نهتدي إلا أن يهدينا الله، فاللهم اهدنا في من هديت، وعافنا في من عافيت، وتولنا في من توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، ولا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تبارك وتعاليت، نستغفرك ونتوب إليك.