إن العمر يمر كما تمر هذه الأيام والشهور، ولا يبقى للإنسان إلا عمله الصالح، وهذه أيام مباركات، وليال فاضلات ولذا جعل الله عز وجل العبادة فيها أعظم من العبادة في غيرها، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في القيام والذكر في هذه الليالي المباركات كلها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر -أي: الأواخر من رمضان- أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر، وذلك كناية عن اعتزال النساء وعدم معاشرتهن تفرغاً للعبادة.
وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه يقوم وينام، أي: ينام بعض الليل، وفي هذه الليالي -أي: العشر الأواخر من رمضان- كان يحيي ليله كله.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يأمر بإيقاظ أهله في ليالي رمضان سوى العشر، بل كان يرغبهم في ذلك كما مر على علي وفاطمة ليلاً فقال: (ألا تصليان؟)، وقال ليلة: (سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ ماذا أنزل من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)، يقصد بصواحب الحجرات: أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهن.
فقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات) هذا فيه ترغيب في القيام وإحياء الليل بالذكر من غير حث شديد، وإنما كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان؛ حتى يحيين الليل بالقيام والذكر ونحوه، فهذه الليالي الفاضلة أولها ليلة الحادي والعشرين، وقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم أنها كانت في إحدى السنوات هي ليلة القدر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد اعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الأوسط من رمضان طلباً لليلة القدر، ثم أري ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، فخرج في صبيحة يوم عشرين، فقال: (من كان اعتكف معي العشر الأوسط فليعتكف العشر الأواخر؛ فإني أريت ليلة القدر في العشر الأواخر)، وكذا ورد عن كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما يدل على أنها في العشر الأواخر.
وفي هذا الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) أي: مطرت السماء في تلك الليلة، وكان المسجد مصنوعاً من جذوع النخل ومسقوفاً بجذوعه كذلك، فوكف المسجد، أي: نزل المطر على أرضه، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر وقد سجد في ماء وطين، وظهر أثر الطين على وجهه وأنفه عليه الصلاة والسلام، وهذه كانت في سنة ثانية في ليلة الثالث والعشرين، رأى نفس الرؤيا عليه الصلاة والسلام.
وثبت أيضاً عند الترمذي وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان)، فكانت ليلة القدر التي هي ليلة إنزال القرآن كانت ليلة أربع وعشرين، وهي أول السبع الأواخر.