المعنى الأول من معاني الربوبية: أن الله عز وجل هو الخالق الرازق والمدبر لكل ما في هذا الكون، وهذا المعنى يجب على العبد أن يبتدئ به فاتحة صلاته حين يقرأ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، فهو سبحانه وتعالى رب هذا العالم، والرب بمعنى: المصلح الذي يرب غيره، أي: يقوم عليه بالإصلاح، وربوبية الله سبحانه وتعالى للخلق جميعاً لا تشبهها ولا تدانيها ربوبية غيره، ذلك أنه عز وجل تفرد بخلقهم ورزقهم وضرهم ونفعهم، وهو عز وجل وحده الذي يفعل ذلك بالصلاح الذي لا فساد فيه، وقد قدر وجود أنواع من المفاسد فيما خلق، لكنه عز وجل جعل وراءها من المصالح والحكم والغايات المحمودة ما تضمحل معها تلك المفاسد كفعل من أفعاله سبحانه وتعالى، فلا يوصف عز وجل في شيء من أسمائه أو صفاته أو أفعاله بالفساد أو الشر، فالخير كله في يديه، والشر ليس إليه، وإنما يخلق الشر للخير، فالصلاح الذي يقع في العالم بسبب وجود بعض أنواع المخلوقات التي فيها من الشر أضعاف مضاعفة عن الشر الذي فيها، فإذا علمنا أن هذا الخير وهذه المصالح لا يمكن أن تحصل إلا بوجود هذه المخلوقات التي فيها شر لأدركنا أنه سبحانه وتعالى المصلح لشأن خلقه جميعاً بما لا يشبهه إصلاح غيره.
فالصلاح في هذا الكون لا يلزم أن يكون خاصاً بعبد بعينه، وإنما يكون في المجموع، فالله سبحانه وتعالى يفعل الخير، ويخلق الخير والشر، يخلق الشر لما يترتب عليه من أنواع المصالح والحكم والخير العظيم الذي لا يحصل إلا بوجود الشر، فهو سبحانه وتعالى رب العالمين الذي يصلحهم، ولذا كان آخر ما يقع في قلوب الخلق وعلى ألسنتهم: الحمد الله رب العالمين، كما قال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:73 - 75].
قالها المؤمنون بألسنتهم وقلوبهم، شاهدين فضل الله عز وجل عليهم، وأما الكفار فقد وقع في قلوبهم ذلك الحمد رغماً عنهم لا يملكون غير ذلك؛ لأنهم رأوا من المصالح والحكم والخير الذي لم ينالوا منه بسبب إعراضهم عن أمر ربهم عز وجل، ما جعلهم يدخلون النار حين دخلوها، كما قال الحسن: إن أهل النار دخلوا النار، وإن حمد الله لفي قلوبهم لا يملكون غير ذلك، وإن كانوا لا يحمدونه على أنه أنعم عليهم، ولكن يحمدونه على كمال عدله، وكمال حكمته وقدرته وعزته سبحانه وتعالى، ولا يملكون أن يصفوا ربهم عز وجل بنقص أو فساد، فهو رب العالمين الذي خلق الخلق وقدر مقاديرهم، وهو الذي رزقهم وأعطاهم ومنعهم، وهو الذي خفض ورفع، وأعز وأذل، وجعل من وراء ما يقدر من الآلام والشرور حكماً ومصالح تعجز قدرة العباد عن إدراكها والإحاطة بها.
فهو سبحانه وتعالى المتفرد بالخلق والرزق والتدبير {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3]، وهذا هو معنى قيام السموات والأرض الذي ذكر في الدعاء الشريف.