إن من أعظم آثار الإيمان بحقيقة الحياة وأنها لهو ولعب وزينة، والإيمان بالآخرة وتحقيق الإيمان بالله ورسله من أعظم ثمار ذلك وآثاره في سلوك المؤمن في حياته عندما تصيبه المحن، وتصيبه المصائب فهو لا يجزع عند المصيبة، ولا يفرح عندما تأتيه الدنيا فرح الغرور والكبر، ولا فرح البطر والأشر الذي ينسب إلى نفسه الفضل، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]، وذلك يتحقق بالنظر فيما قدر الله عز وجل من المقادير، وهذا هو ثمرة الإيمان بالقدر، وثمرة الإيمان بما كتب الله عز وجل من مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن أول شيء خلقه الله القلم، فقال: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، فجرى في تلك الساعة فيما هو كائن.
وفي حديث أبي هريرة (يا أبا هريرة! جف القلم بما أنت لاق)، أي: جف القلم على علم الله سبحانه وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف).
فاللوح المحفوظ قد جف قلمه، وطويت صحفه، وأما الكتب الأخرى فهي نسخ تقبل المحو والإثبات، أما اللوح المحفوظ فلا محو فيه ولا إثبات، قال تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، قال ابن عباس: الكتاب كتابان.
فالله سبحانه وتعالى جعل في نفس المؤمن الإيمان بالقدر؛ لكي لا يأسى على ما فات، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، أي: من قبل أن نبرأ الأرض، أو من قبل أن نبرأ النفوس، أو من قبل أن نبرأ المصيبة، أي: نخلقها، أو من قبل أن نبرأ الخليقة كلها، فيشمل التقديرات كلها، وهذا أحسن التفسيرات في هذا المقام، فقبل أن يبرأ الله كل ذلك، وقبل أن يوجده، قدر الله هذه المقادير، وذلك أن الذي يترك التنافس على الدنيا سوف يفوته منها، وأن الذي ينافس ويسابق على الآخرة سوف يصيبه من أنواع البلايا والمحن ما يصيبه، فلابد إذاً أن يكون مهيأ النفس مستعداً لتحمل ذلك بغير شقاء ولا تعاسة.
إن المصائب تشقي الناس إذا لم يؤمنوا بالقدر، وإذا لم ينظروا إلى البداية والنهاية، وأما إذا أيقنوا بالنهاية هانت عليهم المصيبة، وإذا أيقنوا بالبداية نظروا إلى حكمة الله الذي علم وقدر وكتب، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، ووضع الأشياء في مواضعها، وله الحكمة والملك والحمد، يحيي ويميت وهو على شيء قدير، فليس فقط له الملك بغير حمد حتى يتصرف في ملكه كما يتصرف أهل الدنيا ممن أعطاهم الله الملك؛ للشهوات والرغبات الدنيئة التي يستحقون عليها الذم، كما أنه ليس له حمد بغير ملك بل هو سبحانه وتعالى مع كمال ملكه يستحق أكمل أنواع الحمد، قال تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن:1]، وأكثر الخلق إذا كان ملكاً تصرف على هواه، وكثير ممن له حكمة يتصرف بها لا يكون قادراً، ولا يكون ملكاً متصرفاً ليمضي الحكمة في مواضعها، والله عز وجل له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
فإذا نظر الإنسان إلى البداية والنهاية فعند ذلك تهنأ نفسه بالحياة وتستقر، ويستقر قلبه ويسكن ولا يجزع عند المصائب، قال عز وجل: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] أي: كتابة كل مقادير الخلائق على الله يسير، وفيه إثبات قدرة الله، وفيه إثبات أسمائه وصفاته ومعرفة علمه وفعله عز وجل بالكتابة، حيث كتب المقادير وأمر بكتبها، ومعرفة مشيئته وقدرته، ومعرفة خلقه لأفعال عباده، هكذا أخبر الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد:22 - 23] أي: من الدنيا، فأنت إذا نافست على الآخرة فاتتك الدنيا وإذا زهدت في الدنيا، فاتك بالتأكيد من شهواتها، ومع ذلك لا تحزن ولا تأسَ ولا تغضب من أجلها، إنها تافهة يسيرة، إنها أقل من أن تغضب من أجلها أو تحزن على فواتها، قال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ٍ} [الحديد:23]، وقرئت (بما أتاكم) أي: ما آتاكم من الدنيا، وأما قراءتنا ((آتَاكُمْ ٍ)) أي: بما أعطاكم الله منها.
وأما هذا الفرح المذموم فليس مجرد السرور الذي يحصل للإنسان طبعاً وفطرة عند حصول ما يوافقه من أهل أو مال أو ولد، ولكن ذلك الفرح الذي حذر الصالحون من قوم قارون منه، حيث قال: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، فليس الفرح هو السرور، ولكن الفرح الذي هو الكبر والبطر والغرور بالنفس وأن يقول: هذا لي، كما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78].
فهذا الذي ينسب لنفسه الفضل، ويرغي ألسنة الناس بذلك مباشرة وبغير مباشرة، كأن يأمرهم أن ينادوا وأن يقولوا كما نادى فرعون في قومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51 - 52]، فأراد أن ينادي بذلك في أرجاء مملكته كما يفعل أكثر ملوك الأرض حين يسخرون من ينادون في الناس بملكهم وحكمهم، والثناء عليهم بفضائل ليست لهم، فسبحان الله هذا هو الفرح إذا فرح، فالإنسان لما أعطي فعلاً فرح الكبر والبطر، ومدح النفس والثناء عليها، وظن أن فضل هذا ليس من الله كان ذلك فرحاً مذموماً، فكيف بمن يفرح بما لم يؤت وبما لم يأته: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188].
فالله سبحانه وتعالى لام من ينسب لنفسه الفضل فيما أُتي من الخير والحسنات، فكيف بمن ينسب لنفسه فضلاً ليس له؟ قال: ((لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ))، وهذا من أسباب الشقاء في الحياة.