من عقوبة المعصية المعصية بعدها، لماذا نقع في المعاصي والمنكرات؟ لأننا وقعنا في منكرات قبلها ولم نتداركها بتوبة، ولم نسارع إلى الرجوع، فترتب على ذلك أن أوقعنا الشيطان فيما هو أخطر وأشد، ألا وهي الكبائر، فالفرار من الزحف كبيرة، ولكن برحمة الله عز وجل أنه بادر إلى ذكر العفو عنهم سبحانه وتعالى، ((إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ))، قال: ((وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ))، ولأن اليأس مدخل شيطاني خطير، فكان لابد من ذكر العفو حتى تعافى الطائفة المؤمنة من هذا المرض، ولو لم يذكر الله عز وجل العفو عنهم لأوشك أن يصيبهم اليأس، وهم الذين يعدون إلى المنازل العالية، فكان لابد من ذكر عفوه عز وجل.
يقول ابن القيم: فاستزلهم الشيطان بتلك الأعمال حتى تولوا، فكانت أعمالهم جنداً عليهم، فازداد بها عدوهم قوة، فإن الأعمال جند للعبد وجند عليه ولابد فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها.
لذلك قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم.
ودون الإمام البخاري في كتاب الجهاد في صحيحه: باب عمل صالح قبل القتال.
فمن أين تأتي الهزائم؟ من الأعمال.
يقول: فللعبد كل وقت سرية من نفسه تهزمه أو تنصره، فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتله بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه، فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه إنما هو بجند من عمله؛ لأن فراره منه وهو لا يطيقه غير مذموم، وإنما أذن الله في الفرار من أكثر من الضعف، ولم يأذن في الفرار من الضعف، ووعد إذا كانت الأعمال تامة بأن يغلبوا عشرة أضعافهم، ولذلك البشارة لم تنته في سورة الأنفال، بل هي باقية، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} [الأنفال:65 - 66]، فالبشارة لم تلغ وإنما هي قائمة، ولكن التكليف هو الذي نسخ، وهو وجوب الثبات للتسعة أضعافهم، فيحرم أن يفر المسلمون من مثليهم، ويجوز أن يفروا من أكثر من ذلك، ولو قويت قلوبهم وأعمالهم لانتصروا على عشرة أضعافهم، وعلى أكثر من ذلك.
Q ما معنى قوله: يشعر ويتعامى؟
صلى الله عليه وسلم أي: يجعل نفسه كالأعمى فهو يعلم بأن أعماله هي التي تأتي له بهذه البلايا والمحن، ولكن يقول: أنا أعمل خيراً كثيراً، فلا يريد أن يصلح نفسه ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل يتركها ولا يغير من طباعه، ولا يتحكم في شهواته، ولا يغير عاداته ويتحكم فيها، ولا انتبه لوسوسة الشيطان، وإن تذكر أمر الآخرة رأى نفسه من المقربين، وأنه ينافس المهاجرين والأنصار، وأن منزلته الفردوس الأعلى بغير حساب ولا عقاب!! اللهم اغفر لنا وتب علينا وارحمنا.
قال ابن القيم: فأعمال العبد تسوقه قسراً إلى مقتضاها من الخير والشر، والعبد لا يشعر أو يشعر ويتعامى، ففرار الإنسان من عدوه وهو يطيقه -وهو قادر على أن يقف أمامه- إنما هو بجند من عمله، بعثه له الشيطان واستزله به.
ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم؛ لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضاً عفا الله عنه، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها، وهذا من رحمة الله عز وجل، وهذا الذي لابد أن تستحضره في مثل هذه المقامات، مع صفات العفو والمغفرة والرحمة وسعة فضله عز وجل حتى تعظم الرغبة، وحتى لا يصل الشيطان بك إلى اليأس، فالحساب الشديد الذي يصل بالإنسان إلى اليأس ليس مأموراً به، بل إن الذي يغفل جانب العفو من الله عز وجل يضر بنفسه أعظم الضرر.