لا تظن أن الهجرة فقط هي الانتقال من دار الحرب إلى دار الإسلام، فالمهاجرون هاجروا الهجرة العظيمة السابقة التي فازوا بها بشهادة من رب العباد في كتابه عز وجل، فسماهم المهاجرين.
لكن هناك معنىً أوسع للهجرة بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم فعلاً تركوا الوطن والأهل والتجارة لله سبحانه وتعالى، وباعوا ذلك لله عز وجل وربح بيعهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ صهيب: (ربح البيع أبا يحيى) فعندما دلهم -أي: كفار قريش- على ماله ليأخذوه ويتركوه يهاجر في سبيل الله عز وجل.
فعندما هاجر المهاجرون تركوا كل ما استراحوا إليه من الأهل والمسكن والأموال والتجارة، والعمل المناسب، وانتقلوا إلى دار غريبة عليهم، وكل هذا هجرة في سبيل الله عز وجل، فهل لنا نصيب من الهجرة؟ نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فكل عادة، تعودت عليها، واسترحت إليها، لكن فيها معصية لله عز وجل، فإذا هجرتها، فأنت مهاجر إلى الله، والمهاجر: من هجر السوء، يعني: أن تترك ما نهاك الله عز وجل عنه وإن كنت محتاجاً إليه، كعادة من العادات، بل للمسلمين اليوم نصيب كبير جداً من أن يكونوا من المهاجرين؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) رواه مسلم في صحيحه.
فالعبادة في وقت الفتن هجرة، وما أكثر الفتن من الصد عن سبيل الله، والإعراض عن دينه، وترك الالتزام به، ومن الفتن عدم العمل بدين الله تعالى في كل مجالات الحياة وحصر العمل في الأسرة، ثم يقولون: نعبد الله في أنفسنا، مع أن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فليس من العبادة أن تبقى في دارك تاركاً لكل المنكرات تتفشى، وتذهب إلى عملك ساكتاً عنه، ثم تلاقي الناس ولا تنكر، وإنما تصلي ما عليك من ركعات وكفى، ليست هذه هي العبادة المقصودة، وإنما العبادة: أن تمتثل طاعة الله، وأن تترك ما حرمه عز وجل، لتكون مهاجراً، وفي الحديث: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) وذلك لأن الوقت وقت فتن، فتشتد فيه الأمور، ويصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، ولذلك يكون مهاجراً.