لقد كان الصيام فرصة عظيمة للارتفاع والسمو والإصلاح الداخلي الذي نحتاج إليه أعظم احتياج؛ لأنه لا غنى لنا عنه، وإلا صرنا في مصاف البهائم نرتع كما ترتع، وإنما شرع الله عز وجل الصيام لتحقيق التقوى، ولنتحكم في أنفسنا؛ لكيلا يكون الإنسان عبداً لشهواته، بحيث تتحكم فيه الشهوات، ويصبح هو الذي يتبعها، ويتبع الهوى، ومن اتبع الهوى كان أمره فرطاً، قال عز وجل: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وأنت في هذا الشهر الكريم تذكر الله سبحانه وتعالى، وقد فتحت لك أبواب الطاعات وأبواب الجنان، وغلقت أبواب النيران، وأُعنْتَ بتصفيد الشياطين، وأعنت بتوفيق الله عز وجل بمناد ينادي: (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر) وفي كل يوم من أيام هذا الشهر الكريم المبارك أعنت على هواك حتى لا تتبعه، وحتى يكون الأمر مستقيماً لا فرطاً، وبترك ذكر الله والغفلة عنه وباتباع الهوى يصبح الأمر فرطاً، نعوذ بالله من ذلك، فهل وعينا ما شرع الله عز وجل لنا؟ وهل حققنا ما شرع لنا؟ وهل بدأت نفوسنا تولد من جديد؟ وهل بدأت تتحرر من أسر شهوات البطن والفرج، والتي تعمي الإنسان وتغلق قلبه عن الفهم، وتجعله لا يرى من الدنيا إلا عبودية هذه الشهوات: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)؟ إن التعاسة التي يعيش فيها أكثر البشر إنما منبعها أنهم ابتعدوا عن البشرية والآدمية، وصاروا يشاركون البهائم في ما هي فيه، قال الله عز وجل: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، وقال عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فبالغفلة عن ذكر الله صاروا كالأنعام والعياذ بالله، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]، فالله سبحانه وتعالى حذرنا من ترك ذكره، وإنما ينسى الإنسان ذكر الله عز وجل إذا استمر على تلك الغفلة وأهمل نفسه، فيصير والعياذ بالله خارجاً عن طاعة الله، خاسراً لدينه ودنياه، تعيساً في الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من ذلك.
إن الله عز وجل شرع لنا في هذا الشهر من وسائل التهذيب ووسائل الإصلاح ما تقترب به النفوس الإنسانية من حقيقتها التي وجدت من أجلها، فهذه العبادات إنما شرعت كأوعية يتحصل الإنسان بها الطهارة والنقاء.
إن الإنسان يحتاج إلى غذاءين، الأول غذاء للبدن، ويكفيه منه لقيمات يقمن صلبه، وأنواع الملذات إذا تيسرت فبها ونعمت، وإلا فالإنسان لا يعيش من أجلها، وأما من يشغل فكره بأنواع الأطعمة ويتململ من نوع واحد، ويقول: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا) [البقرة:61]، فذهنه مشغول بالفوم والعدس والبصل وأنواع الأطعمة كما تشتهي البهائم، فهذا الإنسان الذي همه في شهوة بطنه وشهوة فرجه، وشهوة العلو والفساد في الأرض، نعوذ بالله من ذلك، دمَّر نفسه وحياته، وقد شرع الله لنا في هذا الشهر الكريم ما تزكو به النفوس وتتحرر، فشرع لنا في أثناء نهار رمضان الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، لكي نتحكم في أنفسنا، وشرع لنا في ليل رمضان أن نتناول ما نحتاج إليه من طعام وشراب.
الثاني: غذاء للروح والقلب، غذاء بذكر الله سبحانه وتعالى الذي هو المقصود الأعظم من العبادات، كما قال عز وجل عن خير عبادة وهي الصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
فذكر الله في الصلاة أعظم وأكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، قال عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، فالصلاة تذهب السيئات، إذ أنها تقرب الإنسان من الله، وهي ذكرى للذاكرين، فإذا حصلت هذه التغذية للقلب نما وتطهر من أدران وأمراض الخبث والفساد الذي يحل فيه، وكلما استسلم للشهوات صارت إراداته كإرادة البهائم.
إذاً: لا بد لنا من هذا الغذاء الآخر، غذاء الروح والقلب، وذلك يكون بذكر الله سبحانه وتعالى.