قال تعالى: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ)) قدر الله أن يقع منهم النفاق ليعذبهم عدلاً منه عز وجل؛ وذلك أن الله سبحانه وتعالى علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وهو الذي أراد ذلك وقدره، لكنه سبحانه لا يعاقب عبداً إلا بما صنع، ليعذب به، قال تعالى: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ)) أي: على نفاقهم، وفتح لهم باب المغفرة إن تابوا فقال: ((أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)) فهذا الكرم من الله عز وجل؛ لأنه ليس كلهم خالص النفاق كما كان ابن أبي ابن سلول، وإنما كان منهم من وقع في النفاق لاختلاطه بأهل النفاق، وكان منهم من فيه نفاق أصغر، فكان فتح باب التوبة.
وحتى من أشرك بالله عز وجل ونافق النفاق الأكبر فإن الله عز وجل لم يغلق باب التوبة دونه، ويقبله إن أخلص دينه لله، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145 - 146]، فلا تستبعد توبة أحد، فالله عز وجل قد رغب الذين شتموه عز وجل وسبوه، وادعوا له الصاحبة والولد في التوبة، كما قال سبحانه وتعالى عن النصارى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، فالله عز وجل دعا من أشرك به إلى التوبة، ودعا من سبه إلى التوبة كذلك، قال الله عز وجل عنهم في الحديث القدسي: (شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً) ومع هذا دعاهم إلى التوبة فقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75] فدعاهم سبحانه وتعالى إلى التوبة رغم كفرهم وشركهم بالله.
وكذلك دعا من قتلوا أولياءه واضطهدوهم وعذبوهم وألقوهم في النيران إلى التوبة، فقال عز وجل عن أصحاب الأخدود: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم قتلوا أولياءه ثم هو يدعوهم إلى التوبة.
فباب التوبة مفتوح حتى يغرغر العبد، وهو مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، مفتوح ما لم ينزل البأس والعذاب، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85]، وقال الله عز وجل: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)).
قال تعالى: ((وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ)) لقد كان هذا من آيات الله عز وجل العظيمة، فقد رد الله الذين كفروا ولم يفعل المؤمنون شيئاً، وإنما رد الكفار بغيظهم في قلوبهم، فلم ينالوا خيراً حين أرادوا بالمسلمين شراً؛ فكل من أراد بالإسلام والمسلمين شراً فلا ينال خيراً، وهذه حقيقة مؤكدة فلا يقصد أحد مؤمناً السوء إلا رده الله عز وجل ولم ينل خيراً، وإن تصور أنه سوف يحصل على الخير فلن يحصل إلا على السوء الشر جزاء وفاقاً.
ثم ختم الله الآية بقوله: ((وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا))، فمن الذي يرد عشرة آلاف؟ ليس في قدرة المسلمين أن يردوهم، لا بسلاحٍ ولا بحسن ترتيب، فالأمر ليس إلا مقتضى أسمائه وصفاته عز وجل، فهو الذي هزم الأحزاب وحده، ورجع المشركون خائبين يجرون أذيال الخيبة؛ وهذا مما يسعد القلب ويفرحه عبر العصور، وهذه أيام الله التي أمر أنبياءه أن يذكروا الناس بها، كما قال في شأن موسى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5] فيوم الأحزاب من أيام الله عز وجل، التي يعالج المؤمن بها حزن قلبه وغم نفسه مما يصيب المسلمين، من نكبات ومحن فيتذكر أن المسلمين قد مروا بلحظات أشد منها.