قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)، وما أقبح أن يكتب العبد عند الله كذاباً، نعوذ بالله من ذلك.
والصدق الذي ذذكره الله عز وجل في هذا الموطن لم يكن صدق كلام فقط، بل كان صدق القول والفعل، كان كلاماً مبهماً فقال: ليرين الله ما أصنع، فخاف وهو الصادق بإخبار القرآن عنه أنه من الصادقين؛ ومع ذلك خاف أن لا يكون صادقاً، وكان العهد أن يبذل كل وسعه في نصرة الإسلام، ولما كان صادقاً قرب الله له البعيد، وكشف له من الغيوب حتى وجد رائحة الجنة دون أحد، والجنة يجد الناس ريحها من مسيرة خمسمائة عام، وهو قد قربت إليه رائحتها حتى وجدها دون أحد، وقاتل حتى ما استطاع سعد بن معاذ سيد الأنصار الذي اهتز لموته عرش الرحمن، والذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسميه سيد الأنصار، يقول: (قوموا إلى سيدكم) ما استطاع أن يفعل فعله، فقال: يا رسول الله! ما استطعت ما صنع، فانظر كيف كان أنس قدوة لـ سعد رضي الله تعالى عنهم.
هذا الصدق والجدية والقوة فيما يعمله الإنسان، هو توحيد الإرادة كما ذكر أهل العلم؛ فالإخلاص توحيد المراد وأن لا يريد إلا وجه الله عز وجل.
وأما الصدق فتوحيد الإرادة بمعنى: أن يكون الإنسان جاداً فيما يريد، صادقاً في ما يطلب من مرضاة الله عز وجل، بمعنى أنه لا ينشغل بأمر آخر عما يطلبه ويريده من الصدق، فالإنسان قد يطلب مطلباً لكنه يطلبه بضعف، ويتأخر في تحقيق غاياته من ذلك الطلب؛ ونشبه هذا بقطارين، أحدهما: يسافر من بلد إلى بلد مباشرة بسرعة دون أن يتوقف في المحطات المتوسطة، والآخر: يقف في كل محطة، فالوجهة واحدة، ولكن الأول يقطع المسافة في ساعة أو ساعتين، والآخر ربما قطعها في ست ساعات أو سبع.
أما فيما بين العبد وربه فالتفاوت أعظم بكثير، وذلك أن البطيء له رغبات وإرادات على الطريق أضعفت سيره قوته في طلبه النهائي وفي غايته الأخرى، فهو يريد من كل محطة من المحطات شيئاً، وفيها أناس يركبون معه، وأما الآخر فطريقه واحد وإرادته واحدة، فكذا المؤمن الجاد قد أخذ ما أتاه الله بقوة.
وقد تجد هذا التفاوت بين الناس في الصدق في طلب العلم، فتجد إنساناً يجتهد في طلب العلم فيدرك في المدة الوجيزة بصدقه في الطلب ما لا يدركه غيره ممن يترنح في سيره ممن يبدأ كتاباً ثم لا يكمله، يقرأ مسألة ثم لا يتمها، يقرأ باباً من العلم ثم لا يستمر، يحضر بعض الدروس ثم ينقطع وهكذا، وكذلك الصدق في العبادة وإصلاح النفس وتهذيبها، فتجد إنساناً قد التزم لكنه يتوانى في تصحيح أخلاقه وإصلاح نفسه، ولا تزال الأمراض تنهش قلبه، ولا تزال نفسه مريضة مثخنة بالجراح، وعندما يكون هذا هو الوصف العام لأكثر من أظهر الالتزام فلا نتوقع إذاً إلا تأخراً وبطئاً في الوصول إلى النتائج المرجوة، وإن كنا لا نريد من ذلك طعناً في النيات.
قد تكون هناك إرادة لوجه الله ولكن ليس هناك الصدق المطلوب في العمل، وليس هناك الصدق المطلوب في الدعوة إلى الله عز وجل، فمثلاً: قد يوجد من يبذل عمره ووقته وكل فرصة سنحت له في الدعوة إلى الله عز وجل، وهناك من يكون بطيئاً ينتظر الرسوم والعادات، لا يستطيع أن يدعو إلا من خلال رسوم معينة وطقوس معينة إذا غابت فشل، وتوقف في دعوته، فلابد أن يكون هناك صدق في البذل والتضحية في سبيل الله، والصبر واليقين.
والصدق يدخل في كل الأحوال والأعمال، فالصدق مع الله سبحانه وتعالى أن يكون جاداً غير متوانٍ ولا متكاسل، والصدق في الذكر أن يكثر من ذكر الله ولا يني في ذكره، كما أمر الله عز وجل موسى وهارون: فقال تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]، فالله عز وجل أمرهما بأن يقوما بالحق ولا يتوانيا في ذكر الله سبحانه وتعالى، ولا ينشغلا بغير الله عز وجل عنه، وإن كان حبه موجوداً لكن قد يكون ضعيفاً، ولذلك يقدم عليه الأمور الدنيوية من الأهل والمال والولد، ويكثر وقوعه أثناء الطريق، نسأل الله العافية.
قال تعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)) كان هذا الصدق في الجهاد، وهو أعظم مراتب العمل، وذروة سنام الإسلام؛ ولذا كان الصدق فيه محققاً لغايات أهل الإسلام.
وقد ظل أنس بن النضر نوراً ينير الطريق، وأسوة حسنة لكل من أتى بعده، فإذا كان أسوة لمثل سعد بن معاذ فكيف لا يكون أسوة لمن بعده، بعد أن ذكر الله أمره في القرآن العظيم بهذا الثناء الحسن، قال تعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ))، فكان منه الصدق في الجهاد والصبر والثبات والإقدام والتضحية، ولم يعبأ بما يصيبه في طريقه في سبيل الله عز وجل، ولم يلتفت أنس بن النضر إلى بضع وثمانين جرحاً حتى سقط في آخر واحد منها عجزاً عن أن يستمر في القتال، رضي الله تعالى عنه وعن أصحابه، وألحقنا بهم صالحين.
وقوله تعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ))، ليس هذا العهد خاصاً بـ أنس، بل كل من أسلم وآمن قد أعطى هذا العهد، كما قال عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة:7]، وإنما يتفاوت الناس في الوفاء، فكل مؤمن قد قال: سمعنا وأطعنا، وإلا كان هذا قدحاً في إسلامه وإيمانه، إذ لم ير لله على نفسه السمع والطاعة؛ إن كل مؤمن يقول ذلك، ولكن يتفاوت الناس في تحقيق ذلك والصدق فيه، قال تعالى: ((فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ)) أي: وفَّى بنذره وعهده مع الله عز وجل، ووفى بما وعد به الله من الثبات والصبر والتضحية في سبيل الله.
قال تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)) فقد كان المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم هذه النوعية كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وباقي العشرة المبشرين رضي الله تعالى عنهم، وأهل بيعة الرضوان، وأهل بدر، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، كان منهم هذه النوعية الفريدة التي تنتظر أن تفي بعهد الله، وقد فعلت بفضل الله عز وجل وسارت على الطريق.
قال تعالى: ((وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا))؛ وذلك لأن التبديل والتغيير عما كان عليه الإنسان مع ربه عز وجل يقتضي نكوساً ورجوعاً عن الحق، ويقتضي تفريطاً في حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء ((مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا))، وذلك أن التبديل مردود وهم مقبولون عند الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المقبولين، وأن لا يردنا خائبين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.