والمقصود أن هذا الرجل كان قليل العلم، وكان يظن أن الجرأة في الحق هي أن يواجه هذا الرجل القاتل بمثل هذه الفتوى التي سوف تزيده غضباً، وكم من الناس له هذه الصفة! فيتجرأ على ما لا ينبغي أن يتجرأ عليه، ويضحي بنفسه ويظن أنه يضحي بها في سبيل الله، وهو إنما هو رجل جاهل يقود غيره إلى الجهل والضلال أيضاً، فليحذر على نفسه من ذلك، وليحذر كل امرئ منا على نفسه من أن تكون تضحياته في غير موضعها، ولا شك أن هذا الرجل الراهب علم أن هذا الرجل قد قتل تسعة وتسعين نفساً، ولا شك أنه يعلم صفة مثل هؤلاء الناس الذين كثر منهم القتل، ومع ذلك ما استعمل معه تقية، وما استعمل معه مداراة، ولا استعمل معه حسن الحديث، وإنما واجهه وظن أن ذلك هو الحق، وهذا كان من الباطل، فلما قال له: لا، غاظه بلا شك فقتله فكمل به المائة كما هو متوقع، فهذا رجل قتال للنفوس وهذا يقول له: ليست لك توبة، إذاً: فلتكن مائة بدلاً من تسعة وتسعين، وسبحان الله! ما زال في قلبه حب التوبة، وما زال الأمر يقذف في قلبه مرة بعد مرة، ولم ييئس هذا الرجل، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض وكأنه شعر أن هذا الرجل ليس بعالم، فسبحان الله! رجل بهذه المثابة والله عز وجل يقذف في قلبه ما شاء سبحانه وتعالى من التوجه إليه.
وأما هذا الذي أفتاه فليس بعالم فعلاً، فسبحان الله مقلب القلوب وخالق الإرادات! وهو سبحانه وتعالى يوجه وجهة قلوب العباد إليه.
ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل هذه المرة على رجل عالم، فأتاه.
إذاً: ينبغي أن يتحرى الإنسان وأن يأتي العلماء ويجالسهم ويسألهم، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فقال له: إنه قتل مائة نفس، وكلها قتلها بالظلم، وحتى هذا الرجل الأخير وإن أفتى بالباطل فليس عقابه أن يقتل؛ لأنه أفتى فتوى باطلة، فلا يقتل، ومع أنه رجل راهب عابد لكن انظر إلى فضل العلم على العبادة، قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! واستدل به العلماء على قبول توبة القاتل.
وذلك أن أمتنا أشرف عند الله عز وجل من أمة بني إسرائيل، فإذا كان ذنبهم عظيماً وعليهم الآصار والأغلال، ومن قتل مائة نفس لم يحل بينه وبين التوبة، فكذلك في أمتنا، ولذلك قلنا أن التأويل الصحيح لكلام ابن عباس على عدم قبول توبة القاتل: أن الله لم يجعل لقاتل المؤمن عمداً توبة مستدلاً بآية سورة النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93].
فهذا في التوبة التي تعفيه من جميع المسئوليات، بل يبقى حق القتيل وإذا شاء الله أن يرضيه يوم القيامة من عنده أرضاه.