حقائق الإيمان التي جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام لتبينها للناس هي التي تملأ القلب بالنور، فيهتدي الإنسان، ويعرف هدفه وغايته وبدايته ونهايته بدلاً من أن يكون أعمى لا يدرك شيئاً ولا يعقل شيئاً إلا ما تدركه البهائم من الطعام والشراب، فقارن -يا عبد الله- بين من امتلأ قلبه بالنور ففهم حقيقة هذا الوجود، فهم غايته، وحكمة وجوده، وفهم ما ينبغي له أن يعمله، وما بدأ منه، وما ينتهي إليه، وبين آخر لا يعرف من الدنيا إلا طعاماً وشراباً، وشهوة جنسية، لا يعرف من الدنيا إلا ما تعرفه البهائم.
وتأمل في العالم لتدرك أن الله سبحانه وتعالى قد امتن بأعظم النعمة على عباده المؤمنين، تجد أن أكثر العالم يعيشون فعلاً لأجل شهوات البطون والفروج، والقطيفة والخميصة، والدرهم والدينار، يعبدونها من دون الله عز وجل، وتصور أن هذا هو الذي تقام من أجله الحروب، وتسفك من أجله الدماء، وتحتل من أجله الأراضي، ليفرض على الناس نمط حياة عجيب، وأشقى حياة يمكن أن يتصورها الإنسان أن يعيش كالبهيمة والعياذ بالله، ويقاد كالأنعام، ويفرض عليهم أن يعيشوا من أجل البطون والفروج، لا يعرفون معبودهم، ولا يدركون كماله وجماله، ولا يعرفون شيئاً عن أسمائه وصفاته، يعملون بالنهار كالحمير، وينامون كالجيفة في الليل، وقبل ذلك وأثنائه ينظرون إلى مشاهد الفسق والفجور، الذي هو استسلام للشهوات المهينة الحقيرة، ينظرون إليها ليل نهار من خلال وسائل الإفساد التي تفسد عليهم حياتهم، وتظلم قلوبهم، فوالله إن الظلام ليحل بوجود هذه الأمور ولكن أكثر الناس غافلون، ويزدادون طلباً لها في عناية وجهالة وسفاهة عجيبة إلى أن يأتي الموت بغتة، ويرحلون عن هذه الحياة، وإذا بهم وقد نزلت بهم ملائكة سود الوجوه يقبضون أرواحهم، ويضربون وجوههم وأدبارهم والعياذ بالله، فينزعونهم عن أهليهم وأموالهم وسلطانهم وملكهم.
وطائفة أخرى من الخلق تعيش حياة الشياطين، ليست فقط كالبهائم بل أسوأ من البهائم، هم أضل من الأنعام؛ وذلك أنهم يعيشون من أجل الشهوات الشيطانية، التي هي أمراض إبليس من الكبر والعجب وإرادة العلو والفساد، لا لمجرد تحصيل الشهوات فقط، بل يريدون بذلك محادة الله عز وجل ومعاندته، تأمل هؤلاء الذين يسعون في الأرض فساداً، الذين يريدون العلو فيها والفساد، وهم معجبون بأنفسهم، غايتهم الملك والرئاسة والعلو على الناس، ومن أجل هذه الشهوات الإبليسية -التي هي أشد خطراً من الشهوات الحيوانية- يعيش الناس، وتنفق الكثير من الساعات بل من الأيام والشهور والسنوات، وتنفق الأموال والأعمار لأجل تأصيل معاني عبادة غير الله عز وجل، حتى تستقر في النفوس تلك الأمراض الإبليسية التي هي أخطر من الشهوات الأرضية، فالشهوات الأرضية جعل الله عز وجل لها منفذاً ومخرجاً، بمعنى أن الإنسان ينال منها شيئاً مباحاً، وجعل الله للعبد فيها دائرة من المباح، بحيث يطعم حلالاً ويشرب حلالاً وينكح حلالاً ويلبس حلالاً، وجعل دائرة أخرى من المحرمات التي تضره إذا أتى بها، وربما استعبدته إذا غرق فيها والعياذ بالله! أما الشهوات الإبليسية فهي محرمة بالكلية، لا يجوز للإنسان أن ينال منها شيئاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فبطر الحق أي: رده وعدم قبوله، مثل إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، وغمط الناس أي: احتقارهم وازدراؤهم.
تأمل شعوباً بأكملها مريضة بهذه الأمراض، تحاول إذلال غيرها، وتحاول فرض إرادتها الجبارة الكافرة على الأمم في المشارق والمغارب، والجبار هو كل من يجبر الناس على ما يريد دون رجوع إلى شرع الله سبحانه وتعالى، وهو خائب قطعاً، {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15].
فتأمل هذه الظلمات التي تمتلئ بها قلوب أكثر الخلق، طوائف من البشر تعيش حياتها من بدايتها إلى نهايتها لا تعرف من الدنيا إلا حياة البهائم أو حياة الشياطين والعياذ بالله من ذلك، وأما أن ترتفع نفوسهم عن الأرض لتدرك صغرها وقصر الدنيا وقصر نصيبنا منها، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا تساوي جدياً أسك ميتاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مر على جدي أسك ميت، أسك أي: صغير الأذنين فقال: (أيكم يود أن له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! لو كان حياً لكان عيباً فيه، إنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: للدنيا أهون على الله من هذا عليكم).
إن الإنسان بحاجة إلى أن يرى حقائق هذا الوجود، ويرى صغر الدنيا فلا يعمل لها، بل يعد العدة للقاء الله عز وجل، ولا يقتصر على اللذة فيها، وإنما يعلم أن اللذات التي فيها إنما هي بلغة يسير بها لتستقر حياته ليتفرغ إلى ما هو أهم من النعيم الحقيقي بمعرفة الله عز وجل، وأسمائه وصفاته وجلاله وجماله سبحانه وتعالى، إن حاجة العبد إلى هذا النور المذكور في كتاب الله عز وجل هو الذي جمع الله عز وجل فيه الأنوار التي وردت في الكتب الأخرى، والتي جعلها في الكتب السابقة، وحاجتنا إلى هذا أمس من حاجتنا إلى ضوء النهار، وأمس من حاجتنا إلى ضوء المصابيح، وأمس من حاجتنا إلى أي نور حسي تراه الأعين، وتأمل عمل البشر، واشكر نعمة الله عز وجل عليك أن جعل في قلبك النور إن كان لك نصيب منه وإلا فأدرك نفسك.
وتأمل كذلك في هداية الله عز وجل للمخلوقات كلها؛ لتعلم أنه هادي أهل السماوات والأرض جميعاً.
وتأمل ما جعل الله في قلوب الملائكة أهل السماوات من الأنوار العظيمة التي هي مادة خلقهم فضلاً عن معرفتهم بربهم وعبادتهم له، قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان كثرة من في السماء: (أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد)، فهو سبحانه منور السماوات والأرض بالنور الحسي والنور المعنوي، ومنور من فيهن، هدى من شاء سبحانه وتعالى، وجعل في قلوب بعض خلقه من النور ما يضيء البلاد الكثيرة، فمن الناس من يكون نوره كالشمس، ويظهر هذا النور نفسه يوم القيامة، {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:12 - 15].
فيا عباد الله! التمسوا النور، التمسوا نور الكتاب، والتمسوا نور السنة، فالله عز وجل جعل الكتاب نوراً وجعل النبي صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46].
فالله سبحانه وتعالى جعل النور يلتمس في الدنيا لتدرك فائدته يوم القيامة، وفي ساعة المرور على الصراط، واحرص على أن يكون نصيبك من النور كثيراً كبيراً، فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأل الله عز وجل أن يجعل له نوراً، فالسراج المنير يحتاج إلى مزيد من النور، وهذا أمر لا ينتهي إلى حد، ولا يتوقف إلى غاية، بل لا يزال أهل الإيمان في الجنة يزدادون نوراً كلما رأوا ربهم عز وجل إلى ما لا نهاية، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يحاط به علماً، ولا نهاية لكماله سبحانه وتعالى، هو عز وجل له المثل الأعلى، وله صفات الكمال، وله الأسماء الحسنى، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو ذاهب إلى المسجد: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم اجعل لي نوراً)، وفي رواية: (اللهم اجعلني نوراً)، إذا كان هو صلى الله عليه وسلم يسأل ذلك وهو الذي ينير للناس صراط الله المستقيم فحاجتنا إلى سؤال الرب عز وجل أن ينور قلوبنا لحبه ومعرفته أشد، وإن القلب إذا دخل فيه نور الإيمان انشرح وصار فسيحاً واسعاً، وصار لا يؤثر فيه زبالات الخلق إذا ألقيت على الإنسان، فقلب المؤمن واسع منشرح، وهي منة الله على أنبيائه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، وقال موسى عليه السلام فيما حكاه الله عنه: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} * {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26]، وقال عز وجل: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، ولأهل الإيمان نصيب بقدر اتباعهم لأنبيائهم: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ