وقال محمد بن إسحاق: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه أمته.
وهذا وجه ثالث في تفسير الآية، وهو الخيانة في البلاغ، وقد يدل عليه قول ابن مسعود: غلوا مصاحفكم! فإنه من يغلل يأت بما غل يوم القيامة.
والمقصود: أن الغلول ليس فقط في الأمور المادية، ولكن هناك -أيضاً- خيانة في الأمور المعنوية، وذلك في حق الأنبياء مستحيل كما ذكرنا؛ فإن الأنبياء معصومون، وأصح الأقوال لأهل العلم: أنهم معصومون من الصغائر والكبائر، ولا نزاع في العصمة من الكبائر والصغائر المزرية وكتمان البلاغ فضلاً عما زاد على ذلك من الشرك والكفر، فهذا مما لا نزاع فيه بين العلماء، وإنما النزاع في الصغائر غير المزرية، والصحيح: أن الأنبياء معصومون مطلقاً من كل الذنوب التي هي ذنوب في حق البشر الآخرين، بمعنى أنهم لا يتعمدون المعصية، وإن وقع منهم خطأ أو نسيان أو فتور أو خطأ في الاجتهاد أو نحو ذلك من الأمور أو فعل خلاف الأولى فهذا الذي يسمى ذنباً في حقهم، والله أعلى وأعلم.
أما أمر الخيانة بصفة عامة فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يقع من الأنبياء؛ لأن ذلك من أعظم المنفرات عنهم وعن تصديقهم واتباع أمرهم.
فهذا الأمر -وهو الخيانة في الأمور المعنوية بترك بعض ما أنزل الله- إذا وقع من القائد والإمام والمسئول عن غيره وكذلك أهل العلم كان -أيضاً- من أعظم أسباب الفساد، فمن أعظم أسباب الفساد أن يكتم العلماء بعض الدين فلا يبلغوه للناس ولا يقوموا به، فذلك من أعظم أسباب الفساد، وأعظم أسباب انحراف الناس عن الدين الحق، وأعظم أسباب تحريف الملل عما كان عليه دين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالرسل كلهم جاءوا بدعوة واحدة ودين واحد وهو دين الإسلام، فكيف حدث الانحراف؟ لقد وقع التحريف حين ترك بعض من كان عليه أمانة التبليغ وإقامة الدين من أهل العلم ومن أهل القوة والسلطان بعض ما أمرهم الله عز وجل به، وهذا من أعظم الأمور خطراً في تحريف الدعوة إلى الله وإبلاغ دينه، فلابد من أن يكون البلاغ شاملاً كاملاً، لا أن يبلغ ما يوافق آراء الناس وأهواءهم، ولا ما يوافق أهل القوة والسلطان، بل لابد من أن يبلغ الدين كاملاً، كما أمر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ورثته أمته، فلابد من أن تبلغ الأمة ممثلة في أهل العلم منها ما أنزل الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يكتفوا بالبعض دون البعض، فإن ذلك أول أسباب الانحراف، فضلاً عن أن يقولوا على الله عز وجل ما لا يعلمون، وفضلاً عن أن يقولوا الباطل وينسبوه إلى الدين.
فترك بعض الحق لا يبلغ هو سبب من أسباب الانحراف، وأشد منه أن يقال على الله عز وجل ما لا يعلم أنه من الدين، وأشد منه أن يقول المرء على الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ما يعلم أنه خلاف الدين، ولذلك كان عالم السوء وإمام السوء من أعظم الناس خطراً على الأمة، وكان الدعاة على أبواب جهنم هم سبب الفساد الأشد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله حذيفة: (فهل بعد هذا الخير -أي: الذي فيه دخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) فعندهم كلام بالإسلام، وعندهم إظهار للإسلام، لكن قلوبهم قلوب شياطين في جثمان الإنس، فهم يتكلمون بالحق ليروجوا به الباطل لا لينصروا به الدين، وإنما يتكلمون به ليتمكنوا من الصد عن الدين، والعياذ بالله، وهذا أمر معلوم، فإن الباطل لا تقبله الفطر والنفوس؛ لأنه مر خبيث لا يمر إلا بشيء من الحق، كخدعة إبليس الأولى {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، فقد علم أن هذا الباطل لن يروج إلا بشيء من الحق فعظم الله بالقسم، وظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله كاذباً، والله أعلى وأعلم، فقاسمهما ليظهر أنه يعظم اسم الله، ويعظم الحلف به، وأنه ناصح، وهكذا الباطل دائماً فهو لا يروج على الناس إلا بشيء من الحق، فلذلك كان المنافقون أشد خطراً على الأمة، ولذلك كان كتمان بعض الدين الذي لا يوافق الأهواء الباطلة من أعظم أسباب انحراف الأمم، ومن أعظم أسباب فساد الأرض، والعياذ بالله، فلابد من أن يبلغ الحق كاملاً دون أن يكتم منه شيء، والله المستعان، ولو كان هذا الأمر سائغاً -وهو أن يبلغ بعض الحق دون البعض الآخر- لساغ أن يقال عن إبليس: إن عنده من التوحيد والإيمان: المعرفة بالله، والمعرفة باليوم الآخر، وإنه يدعو الله مباشرة بلا وسائط، فإنه قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76]، وقال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص:79] وهذه طريقة بعض المفترين على الله الكذب -والعياذ بالله- الذين يستعملون هذا الأسلوب، فيلزمهم أن يكون إبليس من الكمل؛ لأن هذه الأمور عنده من الحق، فهل هذا إيمان وهل هذا حق؟! لا، بل لابد من أن يبلغ الأمر والدين كاملاً.
ويستحيل على النبي أن يكتم بعض ما أنزل الله إليه، ولهذا قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)) بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه، فهذا أحد وجوه الخيانة.
وكل هذه الوجوه التي ذكرت يستفيد منها أهل الإيمان كما ذكرنا، كما أنهم استفادوا من الصفات الطيبة التي ذكرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يتصف بها صغيرهم وكبيرهم، وأن يتصف بها القادة والمقودون، وكذلك أن يتجنبوا ما نزه الله أنبياءه ورسله عنه من الغلول والخيانة ونحو ذلك؛ لأنها صفات قبيحة، فلابد من أن يتنزه عنها القادة والعلماء والأئمة وكل من له ولاية على غيره، فليس للأب ولا للزوج أن يخون بأن يأخذ لنفسه ما لا يحل له أن يأخذه، أو أن يترك إبلاغ أهله وأولاده وأمرهم وتربيتهم ببعض أمور الدين، والواجب عليه أن يبلغهم، وأن يقيمه فيهم، وإذا خص بعض رعيته دون بعض وقع الفساد في الأسرة بلا شك، فإن أعظم أسباب الفساد في الأسر أن من أهل الولاية فيها كالأب والكبير -مثلاً- من يخص بعض الأولاد بالعطية دون البعض، فيقسم للبعض دون البعض، ويعطي البعض دون البعض، أو يترك إصلاح الخلل الموجود، أو يتمسك ببعض الأمور ويترك أموراً أخرى لا يسعى في إصلاحها.
فكل هذه الوجوه لابد من الاستفادة من الطيب منها والحذر من الخبيث، والصحيح أن كل هذه الوجوه المذكورة داخلة في عموم قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ))؛ لأنه فعل في سياق النفي فهو مثل النكرة في سياق النفي، فكل أنواع الغلول الحسية والمعنوية منفية عن الأنبياء، ويجب أن يتركها أهل الإيمان، خاصة قادتهم وأهل العلم منهم كما ذكرنا، وكل من له ولاية على غيره.