وآيات الله في السابق واللاحق موجودة ظاهرة، فكم من قوى عاتية تحطمت على صخرة الإسلام! وكم حاول الصليبيون وكم حاول التتار هدم الإسلام! وما حققوا شيئاً إلا علواً مدة من الزمن، ثم بعد ذلك هزمهم الله سبحانه وتعالى، وقهرهم وأذلهم بفضله وعدله وحكمته سبحانه وتعالى، قال عز وجل: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) كما استخلف بعض رسله ومكن لهم بالدعوة والبيان وبالوحي الذي أنزله عليهم فآمن به الناس، كما آمن ليونس مائة ألف أو يزيدون، قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:147 - 148]، وإنك لتجد كفاراً في لحظات تحولوا إلى مناصرين للمؤمنين في مواقف كانوا يريدون عكسها، ولو تأملت ما جرى في أول الإسلام من تأييد الله عز وجل لمن أراد إكرامه بهذا الدين لوجدت عجباً، فهذا أبو جهل يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بـ حمزة رضي الله عنه يتغير في تلك اللحظة، فقد كان على دين قومه، فسمع أن ابن أخيه قد شتم، فيأتي إلى أبي جهل ويقول: أتسبه وأنا على دينه؟! ويضربه على رأسه، وأسلم من ساعته.
فانظر إلى هذا الموقف العجيب! لقد كان سب النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقع من أبي جهل سبباً لإسلام حمزة أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعزه الله.
وكان عمر منطلقاً بسيفه يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فيلقاه من يقول له: أختك وختنك قد صبأا، فينطلق وهو ممتلئ غيظاً إلى أخته وختنه زوج أخته لينظر ما عندهما، وكان عندهما من يقرئهما القرآن رضي الله تعالى عنهم، وإذا به في لحظات يجلس فيستمع ويتغير في نفس اللحظة، فانظر كيف يقلب الله القلوب، ويؤيد الله عز وجل الدين بمن شاء، وإذا بالإسلام يكتسب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في لحظات، مع أنه كان يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقصد بعد ذلك دار الأرقم ليعلن إسلامه هناك رضي الله تعالى عنه.
وعندما كان أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه يسمع أن مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة رضي الله عنهما يقرئان الناس القرآن انطلق وقد أخذ رمحه يريد أن يفتك بهذين اللذين قد سفها أحلامهم وعابا آلهتهم وآباءهم، فيقول له مصعب رضي الله عنه: اجلس فاستمع، فإن رضيته فذاك، وإن لم ترضه كففنا عنك ما تكره، فغرز رمحه وجلس يستمع القرآن، وكان أسعد بن زرارة قد قال لـ مصعب: أتاك سيد قومه، لو أسلم لأسلم من وراءه، فاصدق الله معه.
فانظر إلى قوله (فاصدق الله معه) فعندما يكون الداعية صادقاً في دعوته مع الله عز وجل يعامل الله عز وجل في الدعوة، ويراقب الله سبحانه وتعالى في كلامه ولا يلتفت إلى الناس، يجعل الله التأثير في دعوته، فغير الله قلب أسيد بن حضير أحد أولياء الله الصالحين وأحد فضلاء الأنصار رضي الله تعالى عنه.
فقال له مصعب هذه الكلمات، وقرأ عليه القرآن، فعرف الإسلام في وجهه قبل أن يسلم؛ لما فيه من البشر والسرور والانشراح، ذلك أن النور إذا دخل القلب انشرح ففاض على الوجه سعادة وسروراً وفرحاً بدلاً من الشقاء الذي كان عليه بالكفر.
ويتحول أسيد بن حضير إلى الإسلام، والقوم ينتظرونه في النادي، فيرجع وهو يفكر ويحتال لكي يسلم سعد بن معاذ الذي كان عنده من الغضب كذلك على أسعد بن زرارة ابن خالته وعلى مصعب بن عمير أشد مما عند أسيد بن حضير، فيرجع ويقول: إن أسعد بن زرارة هو ابن خالتك فاذهب أنت وقل لهما بأن ينصرفا أو يكفا عنك، فإنهما قالا: إن كرهت ما نقول كففنا عنك ما تكره، فذهب سعد بن معاذ ومعه حربته أيضاً، فقال له مصعب تلك الكلمات، وجلس واستمع القرآن فانشرح قلبه للإسلام في لحظات.
فالله سبحانه وتعالى يمكن لدينه بمن شاء، ويستخلف الأمة الإسلامية كما استخلف من قبلها، وبتلك الدعوة دخل الإسلام بيوت المدينة كلها بفضل الله عز وجل، وفتحت المدينة بالقرآن، لقد أسلم سعد بن معاذ ورجع إلى قومه وقد عرفوا في وجهه تغيراً، فقالوا: والله لقد جاءكم بوجه غير الذي ذهب به، فقال لقومه: إن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تدخلوا في الإسلام، فأسلموا في ساعتهم.
هكذا ينصر الله عز وجل الدين بقدرته سبحانه وتعالى، فلا تعجب ولا تستغرب من أن يتغير بقدرة الله عز وجل من في قلبه كراهية الدين إلى أن يكون ناصراً للدين، ويقذف الله في قلب من يحارب الإسلام -فضلاً عمن الخير في قلبه ضعيف- خيراً، ويجعل القوة التي كان يريد استخدامها ضد الحق في سبيله سبحانه وتعالى لنصرة الحق.
وقد استخلف الله عز وجل رسلاً من رسله بالقتال، كما مكن لـ يوشع بن نون بعد أن خرج ببني إسرائيل من التيه وأمر بالقتال فقاتل ونصره الله سبحانه وتعالى وفتح بيت المقدس على يديه، ومكن لداود كذلك، قال عز وجل: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:251]، ومكن لسليمان بتلك القوة الهائلة العظيمة حتى خضعت له بلقيس مستسلمة لأمر الله وأسلمت هي وقومها لله رب العالمين مع سليمان لما رأوا من عظيم القوة التي أعطاه الله عز وجل إياها.