إن مما يحبطه الشرك عمل القلب، فإذا زالت أعمال القلوب زال الإيمان؛ لأن الإيمان ليس مجرد معرفة، بل هو تصديق وتعظيم ومحبة وخوف ورجاء وتوكل على الله سبحانه وتعالى، كما أنه يلزم منه -بل هو جزء من أجزائه- أن ينطق بلسانه كلمة التوحيد، ولا يكون مؤمناً عند الله ولا في أحكام الدنيا من كان قادراً على نطق كلمة التوحيد -أي: لا إله إلا الله- ثم يأبى ويرفض، كـ أبي طالب الذي أبى أن يقولها، مع أنه كان مصدقاً بها في باطنه، ويعلم أنه لن تغني عنه الآلهة شيئاً، وإنما حمله على عدم النطق بها مراعاة الناس والعادات والتقاليد، ومجاملة كبراء قومه، حتى لا يقولوا: حمله على نطقها الجزع من الموت، ولقد كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهو القائل: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً فلم ينطق بكلمة التوحيد مع أنه كان جازماً موقناً بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه، فإنه لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأرضة قد أكلت الصحيفة التي علقت في جوف الكعبة ظلماً وعدواناً لحصار بني هاشم لمناصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج دون أن يتثبت بنفسه أو يرسل من يتثبت، وأخبرهم بأن الله قد أبطل هذه الصحيفة وهو على يقين غير متردد من أنها قد نقضت بالفعل دون أن يراها، وإنما ذلك لأنه يعلم صدق ابن أخيه جزماً ويقيناً، ومع ذلك حمله الجزع على عدم النطق بـ: (لا إله إلا الله) عند الموت، فقال: لولا أن يقول الناس لأقررت بها عينك، وأبى أن يقول: (لا إله إلا الله)، وكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب.
فتألم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ألماً شديداً، وقال: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:113 - 114]، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)، وقال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، فدلت هذه النصوص على لزوم النطق في حق القادر عليها.