جعل الله سبحانه وتعالى في الإنسان فطرة في الميل إلى حياة القلب، وفي البحث والسؤال عنها، والحرص عليها، فحاجته إلى ذلك أشد من حاجته إلى الهواء الذي يتنفسه، فالإنسان يجد حاجة إلى الهواء؛ لأنه لا يحيا بضع دقائق بدون الهواء، فيجد راحة في أخذ النفس تلقائياً، فكذلك حياة القلب جعل الله فطرة في الإنسان أنه يميل إلى أن يعبد الله عز وجل، ويبحث عن هذه العبودية، ولا يستقر له قرار إلا بأن يكون عبداً لله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، الحنيف: المائل إلى الله، والمشتاق إليه، والمريد له المعرض عن غيره، والعابد له؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي رواية في الصحيح: (يولد على هذه الملة).
إذاً: ملة التوحيد والإيمان بالله والعبودية الكاملة لله عز وجل هي فطرة في كل إنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، كان العرب يشقون آذان البهائم، وعندما تلد البهيمة لا تلد بهيمة مشقوقة الأذن بل تلدها بهيمة كاملة، كذلك اليهود والنصارى والمجوس والهندوس وكل الملل المشركة يولدون على الحنيفية، ويبحثون عن عبادة الله، ثم يصرف تدريجياً بأنواع الصرف عن عبادة الله عز وجل، ولو ترك وشأنه لاختار هذا الدين، واختار هذه الملة، واختار أن يعبد الله، ولما كانت الشهوات حاجزاً له عن الله سبحانه وتعالى، لكن يظلون يقذفون في قلبه هذه النجاسات والقذارات وزبالة أفكارهم حتى إذا عقل هذا الإنسان وجد في نفسه الأسئلة الثلاث تطرح عليه: من خلقك؟ لماذا خلقك؟ إلى أين المصير؟ ولكنه يسكت عن الجواب لوجود الزبالة والخزعبلات والنجاسات في قلبه، فيقول: لا أريد أن أبحث في هذه المسألة، وإذا قال له إنسان: أين المصير؟ الموت، الجزاء، الحساب، لم تخلق سدى، يقول لك: اتركنا وشأننا ونعيش حياتنا، والعياذ بالله، نريد أن نستمتع بالحياة.
وكثير من إخواننا ممن يعيشون في بلاد الكفر خالطوا الكفار وسألوهم عن ذلك، وعندهم إتقان في كل شيء، لكن إذا سئل أحدهم في مسألة هذه يقول: أنا لا أدري، ولا أريد أن أبحث في هذه المسألة، لأنني أعيا حين أفكر فيها، وكل شيء عنده في حياته اليومية يمر بانتظام إلا هذه النقطة فلا يفكر فيها، مع أن عنده حاجة ضرورية يحس بها، وأنه لابد أن يتوجه، ولابد أن يعبد، فقد خلقه الله كذلك، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء)، مفردها حنيف، والحنيف هو: المائل إلى الله، فقد فطر الله العباد على ذلك، وهكذا أمر الله عز وجل أن نكون، قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) أي: أبعدتهم عن دينهم الذي فطر الله العباد عليه؛ ولذلك فإن دعوة الرسل للإنسان تجدها مختلفة تماماً عن أي دعوة أرضية، وعن أي دعوة جاهلية، ويجد الإنسان في نفسه رغبة موجودة من دعوة الرسل، فيه فطرة موجودة من أثر ذلك الميثاق البعيد الذي أخذ عليه وهو لا يدري كيف أخذ، لكنه بالقطع قد أخذ، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]، فالله أرسل الرسل لتحذير الناس من هذا النفاق، وليذكروهم بهذه الفطرة التي هي نسخة أصلية من دعوة الرسل، ومطابقة لها تماماً، ولذلك عندما يأتي نور الوحي على نور الفطرة يكون نوراً على نور، {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
فالعباد خلقوا مائلين إلى الله، محتاجين إلى عبادته أشد من حاجتهم إلى الهواء والماء والطعام، ولذلك جعل الله أدلة التوحيد، وأدلة صدق الرسل كالماء والهواء، يجدها كل طالب للهواء، والهواء لا يباع، والماء غالباً لا يباع؛ لأنه ينزل عن طريق المطر من السماء فتجري به الأنهار والعيون، والأصل أن الماء لا يباع، فالناس في حاجة إليه على الدوام أكثر من حاجتهم إلى الطعام؛ لأن المجاعات هذه حالة استثنائية.
فالله جعل أدلة التوحيد وأدلة معرفته وتعظيمه وربوبيته وإلهيته كالهواء، وجعل أدلة صدق الرسل كالماء، وهو أدنى مجهود يبذله الإنسان، وجعل معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم مثل الشمس نوراً وضياء، وأدنى بحث فيها سوف يجزم به كل عاقل أن هذا الدين أوضح دين، وأظهر دين، وأحق دين، ولا يوجد حق سواه، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].