ثم قال تعالى: ((قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا))، وهو ذلك الداء العضال، وهنا بدأت تظهر حقيقة المرض، فلماذا يرفضون الدعوة إلى الله؟ إنهم يرفضون الدعوة إلى الله عز وجل للحسد الذي في قلوبهم، فقالوا: ((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))، وإنك لتلمح من وراء ذلك حقيقة المرض، فهم لم يصرحوا بقولهم: لماذا أنتم الذين اصطفيتم واختصصتم بالوحي دوننا؟! لقد كان ينبغي أن يكون الوحي لنا وليس لكم، وليس لكم علينا فضل.
وكل هذه كلمات تدور حول الحقد والحسد؛ لأنهم في حقيقة الأمر يرون أنفسهم أولى بالوحي، وأولى بأن يكونوا هم الرسل، ألم تسمع لقول المشركين: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، ألا ترى قول فرعون وهو يقارن بين نفسه وبين موسى ليدلك على حسده لموسى، حيث قال عز وجل عنه {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:51 - 54]، فهو يحسد في الحقيقة موسى، وهذه المقارنة التي عملها فرعون يدعي فيها بأنه ليس مع موسى مال كثير، وفي لسانه لثغة فلا يستطيع أن يبين، والحال أنه قد بين موسى، فما المشكلة؟ إن المشكلة الأخرى أن موسى ليس عنده ملك مصر، والأنهار لا تجري من تحته، ففرعون يشعر بأن الناس لم يعطوه حقه، مع أنه ليل نهار كان يقول: ((أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ))، ثم يقول: ((أَفَلا تُبْصِرُونَ))، فكان يراهم أنهم لا يرون ما ينبغي له من التعظيم، ويرى قلوب المؤمنين قد التفت حول موسى وهو لا يقبل ذلك، فوجدت طائفة من قومه تقبل هذا الاستخفاف وتطيعه على ذلك فأهلكهم الله عز وجل.
وهنا يحكي سبحانه وتعالى عن هؤلاء قولهم: ((قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا))، فالذي يدلنا على حقيقة المرض هو أنهم يحسدون الرسل على ما آتاهم الله من فضله، ويريدون أن يكونوا هم أهل الوحي والرسالة، كما هو شأن الكفرة مع الرسل دائماً، ويقولون أيضاً للمؤمنين: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53].
وهذه مسألة ثانية يحاولون بها الطعن في الرسل بعد أن فشلوا في الطعن في دعوتهم، فقد قالوا: ((وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ))، وقد بينت الرسل أن توحيد الله أعظم اليقينيات، فحاولوا الطعن في الدعاة إلى الله عز وجل فقالوا: إن أنتم إلا بشر مثلنا فيكيف تتفضلون علينا؟! فالشبهة الثانية التي طرحوها هي أن الرسل خالفوا العادات والتقاليد، ويريدون أن يغيروا دين الآباء، وتغيير العادات والتقاليد هو أعظم جريمة عند الناس.
فهذه الشبهة الباطلة هي أعظم ما يكفر به كثير من الناس، وهي الشبهة التي بها كفر أبو طالب وظل على كفره مراعاة لها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه ويقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، وأبو جهل وعبد الله بن أمية على رأسه يقولان له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب.
مع أنه يعلم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن دينه خير دين، ويقول: لولا أن يقول الناس: حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك.
فالنظم الموروثة والتقاليد التي نشئوا عليها يصعب عليهم فراقها، ومن ذلك قول فرعون: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] فكل طاغية لا يقبل أن يكون هناك تغيير ولا تعديل لما نشأ عليه، مع أنه ليس عنده دليل عليه ولا حجة، وإنما هو مجرد التقليد الأعمى، والعياذ بالله.