ومن يتدبر آثار الصفات في الكون، ويتأمل صفة الرحمة، وأن رحمته سبحانه وتعالى قد وسعت كل شيء، ويتدبر الرحمة المخلوقة التي يرى آثارها في هذا الوجود، فمثلاً: يرى رحمة الدابة التي ترفع حافرها عن ولدها، ويتدبر رحمة الأم لأولادها، فمثلاً: تجد البقرة في حنان عجيب على ولدها بعد ولادتها، وتأمل كل أم آخذة ابنها تحضنه وتحميه، بل ومستعدة أن تعمل كل ما تستطيع عمله لأجل وليدها، وتأمل كيف أن كل أب أيضاً عنده رحمة عجيبة بأبنائه، ثم تخيل أن كل الرحمات هذه التي بين الوحش والحيوانات الأليفة وغير الأليفة، وبين البشر منذ خلق آدم إلى يوم القيامة، وما سوف يأتي من رحمة في هذه الأرض كلها، كل ذلك أجزاء من الرحمة الواحدة التي أنزلها الله!! فالله عز وجل جعل هذه الرحمة المخلوقة بين الخلق في هذه الحياة ليتراحموا بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل الرحمة مائة جزء، فأنزل منها جزءاً، فبها تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وادخر تسعة وتسعين ليوم القيامة)، فكم من الرحمة مدخرةً! بل كيف بالرحمة التي هي صفته سبحانه وتعالى، أما هذه الرحمة المخلوقة فهي من آثار اسمه الرحمن، وتصور الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين، وكيف أنه رحمهم حتى أخذ بقلوبهم إليه، وجعلهم يحبونه، وجعل في قلوبهم من المعرفة والأنس به والشوق إليه ما لا يدركون معه فضلاً أعلى من ذلك؟ وانظر إلى رحمة الله عز وجل بإرسال الرسل، وما أنعم به عليهم من الصفات الطيبة، وجعلهم رحمة للعالمين.
وتأمل في قول جبريل عليه السلام لمريم وهو يتكلم عن عيسى عليه السلام كما حكى الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]، فالمسيح عليه السلام رحمة عظيمة جداً رحم الله عز وجل بها أهل زمانه من القساوة التي كانوا فيها، ومن الغلظة والغضب الذي حل على بني إسرائيل، وعدم استجابتهم ليحيى عليه السلام وقتلهم إياه، فهم الذين تسببوا في قتل يحيى -كما يذكرون في قصصهم- من أجل امرأة زانية.
وتأمل كيف أن سيدنا يحيى عليه السلام صاحب الحنان والتقوى والنقاء يلقى في السجن مدة طويلة -وهو العبد الحصور التقي البر- من أجل امرأة بغي، ويقتل من أجلها بعد ذلك! فكان سيدنا عيسى عليه السلام رحمة للعالمين، ورحمة للأرض مدة طويلة جداً، وقروناً متعددة، ولم يزل عليه السلام رحمة؛ وذلك بسبب بركة دعوته إلى الإسلام عندما ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويخلص الأرض من شر المسيح الدجال، ويخلص الأرض من شر أتباعه اليهود، ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فمن لم يسلم في زمنه قتل، ولا يقبل الجزية، وترد البركة إلى الأرض، ويهلك الله بدعوته يأجوج ومأجوج، ويقال للأرض: ردي بركتك، وأنبتي ثمرتك، وهذا الخير العميم يكون بتطبيقه لشرع الله سبحانه وتعالى في زمنه.