الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد: فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، سريع الحساب اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم).
فقوله: (مجري السحاب) فيه توسل إلى الله عز وجل بشئون فعله عز وجل وتدبيره لأمر السماوات، فالله عز وجل يجري السحاب الذي لا يستطيع أحد من الناس أن يدعي أنه هو الذي يصرفه في الناس أو بينهم، ويصرف ما يحتويه من أرزاق للعباد، أو ما يحتويه من عقوبات؛ فهذا السحاب قد يكون فيه العذاب الأليم، كما قال قوم عاد عندما رأوا السحاب: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]، قال عز وجل: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:24 - 25].
فتأمل هذا السحاب الذي لا يكاد ينظر إليه أحد في زحمة الحياة، وتأمل كيف يُصرف وُيجرى، وكيف تتغير أشكاله! وكيف يُساق من أبعد البلاد في لحظات بأمر الله عز وجل، وتتغير أحوال الناس على ظهر الأرض بناءً عليه، وكيف أنه لو أنزل الله عز وجل جبال البرد من السماء الذي تتضمنها السحاب على الناس لهلكوا جميعاً! فكيف ستفعل فيهم العواصف الترابية والعواصف الثلجية! وكيف ستفعل بهم الأعاصير، فلو أذن الله عز وجل لها أن تخرج هل يملك أحد دفعها من البشر على ضعفهم وعجزهم وعلى تكبرهم وعنادهم؟ فهذه ريح عاد قال الله سبحانه وتعالى عنها: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [فصلت:16]، وقال: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:6 - 8].
ولو حرم الله عز وجل العباد من الرزق الذي ينزله سبحانه وتعالى من السحاب فكيف ستجري الأنهار؟! وكيف ستمتلئ العيون؟! وكيف ستزرع الحقول وتسقى الأشجار؟! سوف تمتنع حياة البشر، فالله عز وجل له ملك السماوات والأرض، وما أجمل وما أحسن وما أعظم أن تتوسل إلى الله بشهود ملكه للسماوات التي لا ينازعه فيها أحد، ولكن أكثر الناس في غفلة؛ وذلك أنهم ينشغلون بالملك البائد في الأرض ويظنون أن الملك للناس، ولو تأملوا لعلموا أن السحاب يجري كل يوم وكل لحظة بأمر الله، فلا يستطيع أحد أن يجريه، ولا أن يصرفه في الاتجاهات المختلفة، ولا أن يحمله بشيء يريده أو يمنعه من شيء لا يريده، ولو تأملوا ذلك لأيقنوا أن البشر لا يملكون شيئاً ولا يقدرون على شيء، وأن الله سبحانه هو رب السماوات والأرض، وأنه لو شاء سبحانه أن يسقط السماء على الأرض لأهلك الناس، ولو شاء أن يقذفهم بكسف من السماء لدمرهم تدميراً، كما قال عز وجل عن قوم شعيب: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:189].
فالله عز وجل على كل شيء قدير، وهو مجري السحاب سبحانه وتعالى الذي يدبر الأمر كله، وهو الذي إليه يرجع الأمر كله، وعلى المؤمن أن يتوكل عليه.
واستحضار معنى الربوبية في إجراء السحاب يجعل العبد يستحضر معاني التوحيد مجتمعة في الألوهية أولاً، وفي إنزال الكتاب منه سبحانه وتعالى ثانياً، وفي ربوبيته سبحانه التي يدل عليها إجراؤه للسحاب سبحانه وتعالى؛ وهذا يجعل المؤمن يتعلق بالله سبحانه وتعالى.