سمعتم بـ علي بن أبي طالب، الخليفة الراشد رضي الله عنه بعد أن تولى الإمارة صنعوا له قصراً يسكن فيه ليكون أمير المؤمنين، فلما نظر إليه قال: ما هذا؟ قالوا: قصرك يا أمير المؤمنين.
فتولى وهو يقول لهم: قصر الخبال هذا، والله لا أسكنه، قصر الخبال هذا والله لا أسكنه، ورجع إلى بيته القديم.
علي بن أبي طالب يجلس في مصلاه ويقبض بيده على لحيته وهو يبكي ويقول: يا دنيا طلقتك ثلاثاً، يا دنيا غري غيري فقد طلقتك ثلاثاً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5].
ينزل يوماً من الأيام رضي الله عنه إلى السوق، يبيع سيفه بأربعة دراهم، يقول: والله لو كانت عندي أربعة دراهم أشتري بها إزاراً لما بعت سيفي، وهو أمير المؤمنين! حقاً إنه كما قال: يا دنيا طلقتك ثلاثاً، غري غيري لن تستطيعي عليَّ.
من رباهم وعلمهم؟ إنه نبينا عليه الصلاة والسلام، علمهم الشجاعة، علمهم القوة، علمهم الزهد في الدنيا، وعلمهم حب المسلمين، وحب الخير لهم ونشره.
ولا زلنا مع أولئك الرجال في الصدر الأول في زمن الخلافة الراشدة في غزوة الأحزاب ينادي علي رضي الله عنه أحد المشركين وهو عمرو بن عبد ود، هذا الرجل ينادي في الصحابة ويقول: ألا هل من مبارز؟ هل من مبارز؟ وهو فارسٌ من فرسان قريش، قوي شجاع بطل لا يقوى عليه كل العرب، شجعانها وفرسانها، فينادي هذا الفارس البطل المشرك ويقول: هل من مبارز؟ فقال علي وكان عند الرسول، قال: يا رسول الله! أنا أبارزه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي! إنه عمرو، دعك -أي اصبر- فنادى في الثانية وقال: هل من مبارز؟ فقال علي: يا رسول الله! أنا أبارزه.
فقال النبي لـ علي: يا علي! إنه عمرو، فنادى في الثالثة وقال: ألا هل من مبارز؟ فقال علي: أنا له يا رسول الله.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب، وكان علي شاباً يافعاً، وعمرو بن عبد ود قد امتلأ بالسلاح والعتاد، ولكنها الشجاعة الإيمانية، إنها البطولة ولكنها تحت ظل رسول الله، ويخرج علي فيقول له عمرو بن عبد ود: من أنت؟ وهو لا يعرفه، فقال: أنا علي بن أبي طالب.
قال عمرو بن عبد ود: يا بني! إن في أعمامك من هو أسن منك، فارجع فليأتِ من هو أكبر منك سناً، وأعلم منك بالحرب، فإني لا أريد قتلك، فقال له علي بن أبي طالب: أما أنا فوالله إني أريد قتلك.
قال: ماذا؟ فاشتد الصراع، وثارت المعركة، وثار الغبار، فإذا بـ عمرو يشق درع علي بن أبي طالب نصفين، ويجرح علياً جرحاً، ثم يثور الغبار، ولا يعلم أحدٌ ما الذي حدث، وما الذي يجري في الغبار، فإذا بالصحابة في لحظة من اللحظات كلٌ منهم يكبر الله أكبر! الله أكبر! فاستبشر رسول الله، وعلم أن الذي انتصر هو علي بن أبي طالب، فإذا بالغبار يهدأ، وإذا بالمعركة تنتهي، وإذا بـ عمرو صريعاً في الأرض مضرجاً بالدماء، وعلي بن أبي طالب رافعاً سيفه يرجع إلى صفوف المسلمين، والصحابة يكبرون الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!
نعم، إنهم رجال وهي مواقف.
وفي غزوة خيبر يخرج ذلك الذي يسمى مرحباً؛ يهودي لكنه شجاعٌ وبطل، فينادي في الصحابة ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح بطلٌ مجربُ
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
أنا أسد، إذا كنت أنت مرحب فأنا أسد
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غاباتٍ كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندرة
وتبدأ المعركة، فإذا بـ علي بن أبي طالب يقسمه نصفين.
إنهم رجال وهي مواقف: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23].