في يوم وفاته حدثت زحمة، حتى أغلقت الطرقات، زاكتظ البيت بالناس، وخرج الأطفال والنساء والرجال، وكلهم يسألون عن أحمد، ويهتمون لإمام أهل السنة الذي صبر على التعذيب من المأمون والمعتصم، وحفظ الله به الدين.
إن أحمد سوف يموت، إن أحمد سوف يفارق الدنيا، الناس في هم وكرب عظيم، حتى الطرقات احتشدت، والناس لم يعد يسعهم مكان، وتعطلت الباعة، يقول: دخل عليه شيخ فكلمه، في روايات كثيرة، وقال: اشكر وقوفك بين يدي الله يا أبا عبد الله! فشهق أحمد بن حنبل، وسالت الدموع على خديه، فلما كان قبيل وفاته بيوم أو يومين، قال: ادعوا الصبيان -أولاده وأولاد أولاده الصغار- ادعوا الصبيان الصغار، فجاءوا ينضمون إليه، وجعل يشمهم ويمسح بيده على رءوسهم، وعينه تذرف الدموع لمفارقتهم، فقال له رجل: لا تهتم لهم يا أبا عبد الله، فأشار بيده، فظننا أن معناه أني لم أرد هذا، وكان يصلي قاعداً، ويصلي وهو مضطجع لا يكاد يصبر، ويرفع يديه إيماء بالركوع أنه في الصلاة، وفي رواية: وأدخلت الصحفة تحته فرأيت بوله دماً في آخر أيامه، فيقول: فوضعته فقال: خلل الأصابع، فلما كانت ليلة الجمعة ثقلت، فظننت أنه قد قبض، وأردنا أن نمدده، فجعل يقبض قدميه وهو موجه، وجعلنا نلقنه لا إله إلا الله، ونردد ذلك عليه، وهو يهلل، وتوجه إلى القبلة واستقبلها بقدميه، فلما كان يوم الجمعة اجتمع الناس حتى ملئوا السكك والشوارع، فلما كان صدر النهار قبض رحمه الله، فصاح الناس، وعلت الأصوات بالبكاء، حتى كأن الدنيا قد ارتجت وقعد الناس، فخفنا أن ندع الجمعة، فأشرفت عليهم فأخبرتهم: إنا نخرجه بعد صلاة الجمعة، يعني: إلى الدفن، فخاف أن الناس لا تروح إلى الجمعة من شدة البكاء، وبعدها وضع على فراش الموت، تذكر أن له ثلاث شعرات من النبي صلى الله عليه وسلم كان محتفظاً بها، فقال: إذا أنا مت فاجعلوا واحدة على عيني والأخرى على عيني الأخرى والثالثة على لساني، ثم أغلقوا فمي وادفنوني مع شعر النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه يتبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم كما يذكر ذلك ابن حجر وكما يذكر ذلك القسطلاني وكل العلماء المعتبرين.
هذه رواية تبين يا إخواني دور الشيطان في فتنة الإنسان:
ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده واختصار القصة، أنهم كانوا يقولون: قل: لا إله إلا الله، فيقول: لا بعد، لا بعد، فلما أفاق قالوا: يا أبا عبد الله مالك كنت أقول لك: قل: لا إله إلا الله فكنت تمتنع؟ قال: نعم، رأيت الشيطان يقف في زاوية البيت وقد عظ على يديه وقال: لقد فتني يا أبا عبد الله ويريد أن يفتنه، ويقول لي: مت على دين آبائك وأجدادك من كفار قريش، فأقول: لا.
لا، حتى لا أفتن في ديني، وما مات إلا بعد أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، وبارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً.