إنها آية من آيات الله، وعلامة من علامات قدرة الله جل وعلا؛ أن ترى رجلاً نائماً وليس بنائم، وتراه يقظاناً وليس بيقظان، والكلب عند الباب، والشمس تطلع عليهم وتغرب، وفي لحظة من اللحظات يأذن الله جل وعلا، للأرواح أن ترجع، فإذا الأجساد تتحرك مرة أخرى، فتهتز من بعد موتها: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:19].
فإذا بهم يقومون يتساءلون بينهم! يقول أحدهم: كم يوماً نمنا؟ وكم ساعة لبثنا؟ فيرد عليه الآخر فيقول: نمنا يوماً كاملاً نمنا يوماً طويلاً، فرد الآخر فقال: لا.
بل نمنا بضع يوم عشية أو ضحاها، قال لله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] فإذا الجدال عقيم، وإذا النقاش لا ينفع، وإذا الكلام لا يفيد، فردوا أمرهم إلى الله {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] هذا أمر لا ينفعنا، لقد أهلكنا الجوع والعطش، ونريد طعاماً؛ فأخرجوا قطعاً من فضة ليشتروا بها طعاماً، وقالوا لأحدهم: اذهب بهذا المال إلى أسواق المدينة، وادخل مخفياً متلطفاً برفق لكي لا يشعر بك أحد؛ فإنهم إن شعروا بك وقبضوا عليك فسوف يرجموننا ويقتلوننا، إلا أن تعود في دينهم.
وهذه هي حال الطغاة، وتلك هي أحوال الظلمة، وهذه هي المجتمعات الظالمة، لا ترضى أن يبقى على دينهم، ولا ترضى أن يبقى الصالحون على منهجهم، بل إما الرجم أو أن يعودوا في ملتهم {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20].
واسمع إلى سياق القرآن كيف يصف الله جل وعلا خبره، ويقص علينا قصصه! {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} [الكهف:19] إياكم إياكم أن يظهروا عليكم! {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20] أتعرف ما هو الرجم يا عبد الله؟ إنه الرمي بالحجارة؛ أن تحفر لهم الحفر، فيرموا بالحجارة حتى الموت، لماذا؟ لأنهم آمنوا بالله يُسجنون ويُقتلون ويُعذبون؛ لأنهم آمنوا بالله جل وعلا، لأنهم ما رضوا إلا عبادة الله، ولأنهم أبوا إلا توحيد الله، ولأنهم رفضوا كل شيء إلا عبادة الله جل وعلا، وحكمه سبحانه وتعالى.
لكن الذي خرج منهم ما كان يعلم أنهم قد ناموا في كهفهم أكثر من ثلاثمائة سنة إنها آية من آيات الله! فخرج وإذا بالمدينة قد تغيرت، والناس قد تبدلوا، والقصور قد اختلفت، وإذا بالناس يقصون هذه القصة عبر الأجيال والأزمان يقصون قصة فتية خرجوا من قصورهم إلى كهف من الكهوف، فما علم الناس عنهم وما شعروا بهم، وإذا بهذا الرجل يخرج بينهم، شكله يختلف عنهم، وهيئته كأنها هيئة أصحاب الكهف، وإذا به يأتي بمالٍ من العصور القديمة والأجيال السالفة، فيخرجها ليشتري بها طعاماً، فقال له البائع: من أين لك هذه النقود؟ قال: إنها نقودي.
قال: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: أين أنتم؟ فإذا بهم يكتشفون الخبر ويعرفون القصة، فقدموا عليهم، وقد آمن القوم بالله، ورضوا به جل وعلا، فرأوا هؤلاء الفتية الذين قص الناس قصتهم، وذكروا روايات عنهم، فعظموهم، وأعلوا شأنهم {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:21].
تبعه أهل المدينة فإذا به يهرب ويدخل الكهف، فقبض الله أرواحهم جميعاً يموت أصحاب الكهف كما كانوا آية من آيات الله أطلعها الله للناس، فإذا بهم يختلفون ويتنازعون ويتجادلون بينهم، فإذا بالضعفة المساكين يقولون: لنتخذن عليهم مسجداً (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) إنهم أولياء وصالحون ومتقون، لنجعلن عليهم مسجداً، نأتي ونصلي ونعبد الله جل وعلا في هذا المكان {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21].
وهكذا حال السذج والضعفة من الناس، يشركون بالله جل وعلا؛ لأنهم وجدوا قبراً من قبور الأولياء، أو مكاناً من أماكن الصالحين، وإذا رأوا صالحاً تمسحوا به وتقربوا به إلى الله عز وجل، وإذا رأوا قبراً لأحد الأولياء، قالوا: نعبد الله عز وجل عنده، وندعوه عز وجل بجواره، ونتوسل إلى الله عز وجل بهذا الولي وبذلك الصالح غلبوا على أمرهم، وتسلطوا على رقابهم أبناء السلاطين، فقالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21].
وقد اختلف الناس في عددهم، فقال البعض: ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، وقال الآخرون: سبعة وثامنهم كلبهم، ولا يعلم عدتهم إلا الله جل وعلا، وقد نهى الله عز وجل نبيه أن يجادل في أمرهم أو يخوض في شأنهم.
إنها قصة وأي قصة، وعبرة وأي عبرة، نرجي بعض العبر فيها إلى الخطبة الثانية أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.