ثانياً: استغل وقتك وعمرك في طلب العلم.
يروى عن أحد السلف: أنه ذكر الله وهو ابن ثلاث سنين، وأنا لم أستغرب هذا؛ لأنني أعلم أنه في هذا العصر صغار سن، عمرهم سنتان، يحفظون بعض قصار السور، وسمعنا في هذا العصر من ختم القرآن وعمره سبع سنين، أرأيت كيف حفظوا أعمارهم في طلب العلم؟ تقول لي: لماذا يحفظ القرآن هذا؟ هذا يحفظ القرآن حتى ينادى بين الملأ يوم القيامة فيقال له: يا فلان، أتحفظ شيئاً من القرآن؟ فيقول: نعم يا رب! فيقال له يوم القيامة: (اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها) يقرأ القرآن بين الملأ، ويرتل بين الناس، ويرفعه الله درجات في الجنة.
أخي العزيز: هنالك يندم النادمون المفرطون: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] يا حسرتى على ما ضيعت من عمري في الأسبوع الماضي جلست مع شباب صغار في السن، أحثهم على حفظ القرآن الكريم، وأخبرتهم بفضل الاجتهاد في حفظ القرآن الكريم وفضله، فما مرت خمسة أيام إلا وأحدهم حفظ جزءاً كاملاً من القرآن، الجزء الأول من سورة البقرة ختمه حفظاً مجوداً في خمسة أيام! بل أعرف رجلاً عنده أولاد، وعنده أعمال، ومتزوج في نصف عمره، حفظ خمسة أجزاء في شهر واحد! قد تقول لي: ذاكرتي ضعيفة، لا يا أخي العزيز! ليست القضية قضية الذاكرة، القضية ضياع للأوقات، وضياع للأعمار صغار في السن حفظوا القرآن كاملاً! وأعرف أحدهم لم يدخل الثانوية إلا بعد أن ختم القرآن حفظاً، وكلما آتيه وأقول له: ماذا حفظت بعد القرآن؟ يقول: مائة من الأحاديث النبوية وهكذا {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
أتظن أن صاحب العلم والجاهل يوم القيامة سواء؟ كلا وربي! لا يستوي هذا مع هذا، يقول عليه الصلاة والسلام: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) كفضل الرسول عليه الصلاة والسلام على أدنى الصحابة، فكيف لو جمع بين الأمرين العلم والعبادة؟ فإن العلم يراد به العبادة، وقد قيل للإمام أحمد: إن فلاناً علمه قليل، جُل وقته قيام ليل وقراءة قرآن وذكر.
فقال: وهل يراد العلم إلا من أجل هذا، نحن لماذا نتعلم؟ حتى نخاف من الله، فإن العلم الخشية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وكلما ارتقيت في العلم كلما خشيت الله جل وعلا.
أعرف شاباً -ولعلك لا تصدق هذه الأخبار- حفظ جزءاً كاملاً في يوم واحد قد تقول: ليست هذه ذاكرة بشر؟ أقول لك: هذه ذاكرة بشر، ولكن القلب مفرغ من الدنيا، والوقت مفرغ لله جل وعلا كان في الحرم عند الكعبة، فجلس من الفجر إلى الليل حتى حفظ جزءاً كاملاً من القرآن الكريم بإتقان.
أخي العزيز: هلا عاهدت ربك في هذه العطلة، وفي هذه الشهور والأيام أن تحفظ نصف القرآن، قد تقول: حفظ عشرة أجزاء صعب ومستحيل أقول لك: اقسمها على هذه العطلة، فاحفظ خمسة أجزاء في سنة كاملة، فستختم القرآن خلال ست سنوات، هل فكرت في هذا؟ هل عاهدت ربك؟ يقال: أن امرأة جاوزت الستين من عمرها -وكلما كبر عمر الإنسان قل حفظه- أُخبرت عن فضل حفظ القرآن فحفظته عن ظهر قلب!! ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يصنع).
قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أول الدين العلم، قال البخاري: باب: العلم قبل القول والعمل.
والنصارى لم يضلوا إلا لجهلهم، فقد عبدوا الله على جهل وبدع وضلال، قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27].
يا أخي العزيز! هل فكرت في هذه العطلة الصيفية أن تقرأ رياض الصالحين وتحفظ أحاديثه وتقرأ معناه وشرحه؟ هل فكرت أن تقرأ تفسيراً واحداً لكتاب الله جل وعلا؟ هل فكرت في العطلة الصيفية أن تقرأ كتاباً ولو كان مختصراً؟ هل تصدقون أن بعض المسلمين لو سألته: ما أقصر سورة في القرآن؟ لقال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] تقول له: أحسنت، فما تفسيرها؟ لقال: الله أعلم.
ما سبب نزولها؟ لا أدري، لا أدري، لكنك لو سألته عن بعض أنواع السيارات، وعن موديلاتها، وعن أحجامها، لجاءك بتقرير كامل، ولملأ عليك المجلس، ولو سألته عن بعض علوم الدنيا التي لا تنفع لجاءك بالتقارير والأخبار، والله المستعان!
وبعض المسلمين لو أخطأ في الصلاة لما عرف كيف يتم صلاته، يأتيني بعض الناس ويقول: فعلت كذا وكذا في الصلاة، ثم سجدت للسهو.
فأقول: إنا الله وإنا إليه راجعون، يا فلان أعد صلاتك فالصلاة باطلة، وليس كل خطأ ينفع فيه سجود السهو، وليس كل خطأ يحتاج معه إلى سجود السهو.
وبعض الناس يقول: أخطأت في الصلاة، فقطعتها وأعدتها مرة ثانية.
لم يا أخي؟ لمَ تبطل عملك؟ كان يكفيك لو سجدت سجدتين قبل السلام أو بعدها، لكنه لا يدري ماذا يفعل.
كثير من المسلمين حتى الطهارة يسأل عنها، يأتيني سؤال من رجل من المسلمين متزوج وله أولاد، يقول: يا شيخ، هل صحيح أن الرجل إذا جامع زوجته ولم ينزل الماء عليه غسل؟ أقول له: نعم.
يقول: والله يا شيخ أنا منذ عشرين سنة أجامع الزوجة وإذا ما أنزلت لا أغتسل.
إنا لله وإنا إليه راجعون! أنت على جنابة إلى اليوم، ما تعرف الغسل! ما تعرف أحكام الطهارة! ما سبب هذا الجهل؟ إنه ضياع الأوقات، فقد ضاعت في القيل والقال، وضاعت في الدينار والدرهم، وفي أسعار العملات، وفي أخبار فلان وأخبار علان، وضاعت في نوم زائد عن الحاجة، وفي التجول في الأسواق، وفي أخبار الدنيا.
اسمع -يا أخي العزيز- إلى العلم كيف يرفع أهله، وجاهد نفسك لا تقل: كبرت في السن، بعض العلماء بدأ في طلب العلم بعد أربعين سنة، وصار عالماً من العلماء، فلا تقل: فاتني القطار، ولا تقل: ليس عندي وقت، ولا تقل: لا أصلح للعلم، إياك وشبهات الشيطان وحبائله!
يقول الأعمش -وهو أحد العلماء- لولا العلم والقرآن وتفسيره، لكنت بقالاً يقذرني الناس أن يشتروا مني.
لكن ماذا صار؟ صار الناس يجلسون عند رجليه، ويطلبون كلمة تخرج من لسانه لكي يكتبوها عنه.
وهذا عطاء بن أبي رباح، كان عبداً لامرأة من أهل مكة، يباع ويشترى، وكان قبيح الوجه كأن أنفه باقلاً، وهو فقير مملوك، لكنه لما طلب العلم صار المرجع الأول في مكة للفتوى، حتى الملوك والأمراء إذا جاءوا إلى مكة في الحج يستفتونه، وكان بعض الأمراء يجلس عنده، وما يتجرأ أن يسأله سؤالاً حتى يأذن له، فإذا تنحنح علموا أنه الآن يسمح بالسؤال، فيسأله الأمير ويقول: فعلت كذا وكذا ما حكم حجي؟ أو ماذا أصنع؟ فيجيبه ذلك الرجل الذي كان مملوكاً، فصار يرجع إليه في الفتوى في مكة كلها إنه العلم!
وهذا أبو معاوية الضرير، أحد العلماء الذين ذهبت أبصارهم، ولم تذهب بصيرتهم، في يوم من الأيام دعاه هارون الرشيد للغداء وبعد أن دعاه للغداء -ومن المعلوم أن الأعمى بعد أن يأكل يصب على يديه الماء، لأنه لا يستطيع أن يغسل يديه، فصب على يديه الماء في مجلس الخليفة هارون الرشيد - فقال له هارون: يا أبا معاوية أتعرف من الذي يصب عليك الماء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين! قال الخليفة: أنا الذي أصب على يديك الماء، قال: لِمَ؟ قال: إجلالاً للعلم الذي في صدرك.
كيف رفعه الله جل وعلا إلى هذه المكانة؟ إنه بالعلم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
يقول عليه الصلاة والسلام: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً -خرج من بيته إلى هذا المسجد من أجل أن يستمع علماً أو يستفيد حديثاً أو حدثين- سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) يا إخواننا ماذا تريدون بعد الجنة؟ أتريدون شيئاً بعد الجنة؟ والله ما نريد شيئاً غيرها، قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (ماذا تسأل في صلاتك؟ قال: أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار، قال عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن) هذا هو ما يطلبه، ولا نريد شيئاً غير الجنة.
إن من أسهل الطرق إلى الجنة طلب العلم، فاطلب العلم، ابدأ بقراءة الكتب، اقرأ القرآن واحفظ بعض الآيات مع تفسيرها، واقرأ الأحاديث مع شرحها، واقرأ بعض الكتب في الفقه، وبعض الكتيبات الصغيرة، واحضر بعض المجالس، وهناك بعض الدورات الشرعية التي تقام فبادر، ولا تقل: أنا كبير في السن، أنا عندي أعمال وأشغال، لا يا أخي وبعض الناس لو طلب منه أن يذهب إلى الخارج للدعوة إلى الله، لقال: عندي الأولاد وعندي الزوجة، لكن لو يدعى إلى دورة لأجل معاشه لذهب ولو لمدة شهرين أو ثلاثة.
يا أخي العزيز! هذا ليس فيه زيادة معاش، هذا فيه زيادة إيمان وتقوى وعلم وبصيرة في الدين، وطاعة لله جل وعلا، وقربى إليه تبارك وتعالى، جند نفسك لمدة شهر أو شهرين في دورة علمية ينفعك الله بها.
خرج هارون الرشيد في يوم من الأيام فتجمع الشرط والأعوان والخدم والحشم والناس حوله، وكان عنده في حائط أو غرفة أو هودج زوجته، وبعد قليل تفرق الناس عنه، تقطعت النعال، وثارت الغبرة، إلى أين؟ إلى رجل آخر، فسألت الزوجة من هذا الذي ذهب الناس وراءه؟ قالوا: هذا عالم خراسان المجاهد عبد الله بن المبارك، المجاهد قدم الرقة.
فقالت زوجة هارون هذا والله هو الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بالشرط والأعوان هذا هو الملك الحقيقي، والشرف الحقيقي وهذه هي الرفعة الحقيقية يا أخي الكريم.
فأنت إنما تقاس بعلمك، وإذا قيل: فلان جاهل ما عنده علم، فهذه مسبة وشتيمة، ويرتفع الإنسان بالعلم الذي شرفه الله عز وجل به.
إن العلم لا يريد راحة ونوم وأكل وشرب، العلم يريد جهاداً، وصراعاً، العلم يريد منك أن تسهر في الليل، فهذا الإمام البخاري عليه رحمة الله أمير المؤمنين في الحديث -مَن مِن المسلمين ما سمع بـ البخاري؟ إذا ذكر قلنا: رحمه الله، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل خير- كان ينام في الليل، ثم يستيقظ عشرين مرة، ينام ويستيقظ عشرين مرة، أتعرف لماذا؟ كل مرة يستيقظ ليكتب خاطرة خطرت على باله، فائدة علمية وكان عندما يقوم يبدأ فيشعل السراج، والسراج يحتاج إلى زمن حتى يشعله، ثم يضع القلم في المحبرة، ثم يكتب الجملة والجملتين والثلاث، ثم يغلقها ويطفئ السراج، ثم يرجع وينام، وبعد قليل تأتيه خاطرة فيقوم، وربما قام في الليلة الواحدة عشرين مرة إذاً: العلم يحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى أن تضيق على نفسك في النوم
أأبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي
كان هناك سبعة من طلاب العلم في مصر! وكانوا يطلبون العلم من شيخ إلى آخر، ومن عالم إلى آخر، ومن درس إلى آخر، وفي يوم من الأيام اشتهوا سمكة -أرادوا أن يأكلوا السمك، طبيعة الناس يشتهون هذا الطعام- لكن ليس عندهم وقت، وفي يوم من الأيام غاب أحد الشيوخ عن الدرس، لأنه كان مريضاً، فقالوا: هذه فرصتنا نشتري سمكاً فنأكله، فذهبوا واشتروا سمكة نيئة، ثم رجعوا إلى البيت، وقد حضر الدرس الثاني فتركوا السمكة وذهبوا إلى الدرس، وجاء الليل فقاموا ينسخون، كل واحد يطابق نسخته مع أخيه ويقرءون النسخ كلها فيكتبون ما فاتهم، وفي اليوم الثاني خافوا على السمكة أن تنتن وتفسد عليهم، فماذا فعلوا؟ هل فرطوا في درس، أو في مجلس ذكر؟ هل قالوا: نجعل لأنفسنا راحة وإجازة؟ لا.
بل أكلوا السمكة نيئة، نعم.
لأنه ليس عندهم وقت ليشوونها، ونحن لقد ضيعنا الأوقات وضعينا الأعمار ولا حول ولا قوة إلا بالله!
قيل للشعبي: من أين لك كل هذا العلم؟ من أين أتيت بهذا العلم كله؟ فقال: بصدق الاعتماد ما اعتمدت على غيري، والسير في البلاد، أي: سافرت لطلب العلم، ونحن لا نقول لك: سافر، إنما حرك سيارتك لتذهب إلى المنطقة الفلانية، فيها درس من الدروس، احضره في الأسبوع مرة واحدة، أما هذا فإنه كان يسافر على الناقة والدابة، وعلى الأقدام قال: وصبر كصبر الجماد.
هل يشتكي الجماد؟ يقف آلاف السنين ولا يتكلم قال: وبكور كبكور الغراب، يقوم من قبل الفجر يطلب العلم وهكذا كانوا يطلبون العلم.
وهذا ابن الجوزي، كان كل يوم يخرج في الصباح، ويأخذ كسرة خبز يابسة، وبيده الكتب والكراريس، ويذهب عند النهر، يحفظ العلم، ويحفظ الأحاديث، فإذا جاع وضع كسرة الخبز اليابسة في النهر تلين قليلاً فيأكلها ويشرب معها شربة ماء، ويكمل طلبه للعلم يفعل هذا كل يوم، وألف كتباً فيها طب للقلوب، وعلاج لأمراض النفوس.
كيف وصلوا إلى هذا المرتبة من العلم؟ وصلوا بجهاد النفس، مع البذل والاجتهاد.
وعندي خطة لثلاثة أشهر: احفظ خمسة أجزاء من القرآن، واقرأ تفسيراً كاملاً لكتاب الله، واقرأ بعض الأحاديث، واحفظ الأربعين النووية، واقرأ شيئاً في النحو وفي المصطلح والأصول اجعل لك جدولاً, وابدأ بعزيمة واجتهاد أن تختم هذه العلوم وتدرسها إن شاء الله جل وعلا.
أيها الإخوة الكرام: لعلي أطلت في هذا الجانب، جانب طلب العلم والاجتهاد فيه، ولو أكثرت لطال الوقت بنا، ولم نكمل هذا الباب، ولكن حسبك ما سمعت.