إذا ذكرنا السلف كان في مقدمتهم خير الخلق محمد عليه الصلاة والسلام، اسمع إليه -يا عبد الله- كيف كان يتعبد ربه جل وعلا وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! يقول حذيفة: (في ليلة من الليالي صليت وراءه فاستفتح سورة البقرة، يقول: فقلت سوف يركع عند المائة فأكمل، قلت: عند المائة الثانية فأكمل، حتى ختم سور البقرة بركعة، يقول: ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم رفع رأسه نحواً من ركوعه -وفي رواية-: أنه قرأ البقرة والنساء وآل عمران والمائدة والأنعام في أربع ركعات) إنه النبي صلى الله عليه وسلم.
يدخل عليه بلال في ليلة من الليالي وقد قام حتى تفطرت قدماه، فقال: (يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزلت عليَّ الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]).
يقول علي بن أبي طالب: [ما منا فارسٌ يوم بدر غير المقداد -يتحدث عن معركة بدر - ثم يقول: ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم -أي: كلنا نمنا من شدة المعركة- يقول: غير رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه كان تحت شجرة يصلي ويبكي حتى الصباح].
نام الصحابة كلهم إلا هو، قائمٌ تحت شجرة يقرأ القرآن ويصلي حتى أصبح الصباح، أرأيت؟ نعم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ولكن إنه العبد {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء:1] هل قال: برسوله؟ هل قال: بنبيه؟ لا.
بل قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء:1] هذا مقام تشريف، كيف شرف الله نبيه بهذا الاسم، بأنه عبد لله عز وجل وقد أمر الله بالعبودية فقال: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:61].
يقول ابن مسعود: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قمت الليل بآية واحدة إلى الصباح تبكي وترددها، لو فعلها واحدٌ منا لوجدنا عليه -أي: حزنا عليه، ليلة كلها تقوم بهذه الآية؟: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] يرددها طوال الليل، حتى سجد وبكى وقال: اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، فأوحى الله إلى جبريل: يا جبريل! أخبر محمداً أنا سنرضيك في أمتك) يبكي الليل كله ويقومه بآية إنها العبودية.
إنه مقام عظيم لا يصله أي إنسان تتشقق الرجل وهو لا يشعر بها إنها حالٌ ترقى بالإنسان إلى درجة أنه يتلذذ بالعبادة ولا يشعر بالألم، لو تفطرت القدمان لا يشعر بهما؛ لأن قلبه متصلٌ بالخالق، إن الجسد على الأرض وإن الروح في السماء، يطير في الملكوت الأعلى، قلبه تحت العرش، كيف يتألم من هذا حاله؟!
اسمع يا عبد الله! إلى من تحته ومن بعده.