أسمعت بـ ابن المبارك؟ أظنك سمعت به، هذا الرجل كان عالماً فقيهاً، كان يعلم الناس، وكان عابداً، وكان زاهداً، وفي يوم من الأيام ذهب إلى المعركة، ذهب إلى الجهاد، فلما رأى الغزو والقتال والمعارك والشهادة في سبيل الله، ولما رأى الحياة الحقيقية، قال في نشوة: [إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وأيام قطَّعناها في علم الخلية والبرية، وتركنا أبواب الجنة خلفنا!] وتركنا أبواب الجنة مفتوحة خلفنا.
نعم -يا عبد الله- إن العلم من أفضل أنواع النافلة، إن العلم جهاد، يكفيه شرفاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) ولكن صاحب الجهاد يصاب بنشوة، يصاب بحياة، يشم رائحة الجنة وهو على الأرض، يمشي ويستنشق عبيرها، فلهذا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ضيعنا العمر وضيعنا الحياة، وهذه هي الحياة الحقيقية؛ فكتب رسالة للفضيل بن عياض الذي جاور الحرم، الذي جلس عند بيت الله ليعبد الله، كتب له رسالة يقول فيها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
نعم، أنتم لكم الطيب لكم العبير لكم البخور لكم الفرش لكم الدنيا
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يجمعان غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب