ذهب موسى مع هارون، وذهب فرعون يحشر السحرة من قومه، وكان قوم فرعون مشتهرين بالسحر، فأتى فرعون بكل ساحر عليم، وهم أعظم السحرة قال ابن عباس: بلغوا سبعين ساحراً.
وقال بعض المفسرين: بلغوا اثني عشر ألف ساحر.
وقال بعضهم: بلغوا ثلاثين ألفاً، وقال بعضهم: بلغوا تسعين ألف ساحر، اجتمعوا عند فرعون يوم الزينة، وكان في الصف المقابل لهم موسى الضعيف الذي لا يملك إلا عصا، ولا يكاد يبين بقوله؛ ولذلك طلب أخاه هارون، وقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القصص:34] إن الموقف رهيب، والحشد عظيم؛ والجمهور كبير! كل القوم قد تجمعوا وتجمهروا لذلك الموعد، وجاء فرعون واجتمع مع حاشيته ينظرون إلى هذه المباراة، وذلك المشهد العظيم.
وعندما أتى السحرة قالوا لفرعون: {أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41] أي: يا فرعون! إذا غلبنا موسى وهارون هل لنا جزاء من أموال ومناصب؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114] الأمر عجيب! فرعون يجابه موسى ما الذي منع فرعون عن قتل موسى؟ لِمَ لمْ يقتله كحال غيره من البشر؟ لِمَ لمْ يقتله كما قتل الماشطة؟ إنها الهيبة من موسى قذفها الله عزَّ وجلَّ في قلب فرعون، فإذا به يصاب بالرعب، وإذا به يجمع السحرة كلهم -بل أعظمهم- ويعدهم بالأموال والمناصب، ويقول لهم: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114].
إنهم الطواغيت؛ طواغيت البشر، الذين يدعون الربوبية، فقد كان فرعون يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] هذه هي ربوبية فرعون، وربوبية غيره الذين يقولون: لا حكم إلا لنا، فهي ربوبية واحدة، هذه ربوبية وهذه ادعاء الربوبية، فعندما قال فرعون: أيها الناس: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، ويأتي غيره ويقول: أيها الناس: لا حكم لكم غير حكمي؛ فهما سواء، قال الله جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فتوحيد الحكم من توحيد العبادة، بل هو أصل من أصول توحيد العبادة، ولهذا كان فرعون يستعبد الناس، فالحلال ما أحله فرعون، والحرام ما حرمه فرعون، قال عدي بن حاتم لمَّا سمع قول الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قال: (يا رسول الله! والله ما عبدناهم -ما جعلناهم أرباباً- قال: ألم يحلوا لكم الحرام فتحلونه، ويحرموا عليكم الحلال فتحرمونه؟ قال: نعم.
-وهذا شيء منتشر عندنا- قال: فتلك عبادتهم) فلا يشترط السجود، ولا يشترط الذبح، ولا يشترط الطواف بقصره وبكرسيه، وذلك الملك لا يريد هذا، إنما يريد أن يكون الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، وكل حكم فوق حكمه لا قيمة له، كما قال ذلك الطاغية الفاجر:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار