اسمع يا عبد الله إلى المقام الثالث! وهو مقام عظيم جداً، وأيضاً أقول لك: من الصعب أن تجد من الناس من يقوم بهذا المقام؛ وهو مقام إحسان الظن، أن يخطأ عليك إنسان أو يتكلم بكلمات فتحسن الظن به كم وكم من الناس -والله يا إخوة- لا يتحمل الكلام، بل يحمله على أشد محمل، فتجده يقول: ما تكلم إلا وهو يقصدني، وما تكلم إلا وهو يريد كذا وكذا، وما قال هذه الكلمات إلا وهو يريد كذا وكذا، وما أدراك؟ أشققت عن قلبه؟ هل فتشت فيه؟ هلا جئت وسألته!
اسمع يا عبد الله! إلى أولئك السلف الذين سلمت صدورهم وقلوبهم لإخوانهم، يقول ابن معين: إنا لنطعن على أقوام -أتعرف من هو ابن معين؟ إنه جراج ليس في الطب، بل جراح، أي يقول: فلان ثقة فلان كذاب فلان وضاع وعلمه هذا واجب وخدمة لدين الإسلام، يقول: إنا لنطعن على أقوام لعلهم حطوا رحالهم في الجنة، يقول: أنا أتكلم في أناس يمكن أنهم دخلوا الجنة ونتكلم فيهم، انظر إلى الورع وإلى إحسان الظن في إخوانهم، واسمع إلى المقامات:
من المقامات التي ذكرناها قبل قليل العفو والصفح، واسمع للإمام أحمد مع المعتصم، الإمام أحمد جلد جلداً لو جلد هذا الجلد بعير لمات، حتى كان بعضهم يجلده فإذا تعب أتاه آخر فيجلده حتى يسقط على الأرض ويستمرون في الجلد.
وهذا الإمام عندما أطلق سراحه، جاءه طبيب يعوده، فلما نظر إلى ظهره قال: يا إمام! لقد مات الجلد -أي: اللحم- ولا بد أن يستأصل ونقطع اللحم، قال: وإلا استشرى في الجسد، فتموت وتهلك، وما عندهم بنج ولا مخدر، فاستلقى الإمام أحمد على بطنه، وجاء الطبيب بالمشرط، أتعرف من السبب في هذا كله؟ إنه المعتصم الذي أمر بجلد الإمام أحمد، وهو السبب في هذا كله، وهل الإمام أحمد مخطئ أو ظالم؟ لا والله، إنه يحمي عقيدة المسلمين، عقيدة أهل السنة.
فجاء الطبيب وأخذ يقطع لحمه، فلما بدأ بالقطع وضع الإمام أحمد يده على رأسه، فلما بدأ بالقطع قال الإمام أحمد: اللهم اغفر للمعتصم، اللهم اغفر للمعتصم: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].
بكى في ليلة من الليالي بكاء شديد، فقال أهله وتلاميذه، بكيت الليلة بكاء ليس ككل ليلة، ما الذي جرى؟ قال: مر علي في الدرس آية أتعرف ما هي هذه الآية؟ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فتذكرت المعتصم، فقمت الليل وبكيت في السجود ودعوت الله أن يحله.
أيها الإخوة: هذه مقامات عظيمة، وهذه النفس إذا لم تترب على هذه المقامات ولم تذل لله جل وعلا، وتذل نفسها لإخوانها -والله يا إخوة- فلن ينصرنا الله جل وعلا، ولذلك تجد هذه الدعوة دائماً تتقدم ثم تتأخر، ومع هذه الأعمال والجهود المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يقتلون لِمَ هذا يا عبد الله؟ النفوس ضعيفة، ولهذا من قال: أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم.
ونختم بهذه القصة حتى نعلم أيها الأخ الكريم أن هذه النفس تحتاج إلى تربية، ونتيقن أنها مراحل عظيمة حتى نصل إلى هذه المستويات، فاسمع يا عبد الله! إلى هذه القصة الأخيرة، وهي قصة الحسن بن الحسن رضي الله عنه، فقد دخل على علي زين العابدين -وقد سمي بـ زين العابدين من شدة عبادته- وهو جالس بين تلاميذه فدخل عليه الحسن، فأغلظ له في الكلام وكان بينهم خصومة وخلاف، فشتمه وسبه وتكلم فيه، ولم يرد عليه زين العابدين بكلمة واحدة حتى انتهى من سبه وشتمه ثم ذهب، فجاءه في الليل، وطرق الباب عليه، ففتح الحسن بن الحسن الباب، وتعجب من زين العابدين هل جاء الآن يأخذ حقه؟ هل جاءه يسبه الآن ويشتمه؟ أتعرف ماذا قال؟ سلم ثم قال: يا فلان! إن كان حقاً ما قلته فغفر الله لي، وإن كان كذباً فغفر الله لك، والسلام.
ثم ولى وتركه، فجاء الحسن بن الحسن في الطريق وأمسكه وعانقه، ثم بكى وطلب منه أن يحله، ثم قال: والله لا أعود إلى أمر تكرهه أبداً ما حييت: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.