أيضاً من مقامات العبودية بينك وبين الله: أن تربي النفس على مقام يسمى الورع، وهو مقام عظيم لا يصله إلا قليل من الناس، وهو أن تترك المكروه خشية أن تقع في الحرام، وتفعل المستحبات خشية أن تترك الواجبات، حتى قيل عن بعض الصالحين: إنهم تركوا كثيراً من المباح خشية أن يقعوا في الحرام، وشق الواحد على نفسه خشية أن يقع في يوم من الأيام في الحرام، اسمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمر في الطريق فيرى تمرة، فتركها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن تكون هذه التمرة من تمر الصدقة؛ لأنهم معشر آل النبي صلى الله عليه وسلم حرم الله عليهم هذه القاذورات والصدقات، فرماها النبي صلى الله عليه وسلم تورعاً.
اسمع لـ أبي بكر -رضي الله عنه- وهو يأكل طعاماً صنعه له غلامه، ثم قال أبو بكر بعد أن أكل الطعام: من أين لك هذا الطعام؟ قال: جئت به من مال؟ قال أبو بكر: من أين حصلت على هذا المال؟ قال هذا الغلام: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية.
ونحن نعرف أن الكهانة والشعوذة والعرافة كلها شرك بالله جل وعلا، يقول: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، فأعطاني مالاً، واشتريت به طعاماً وأعطيتك، الآن أبو بكر معذور لأنه أكل الطعام وهو لا يعلم، فكان يكفيه أن يستغفر الله جل وعلا وينتهي الأمر، لكن انظروا إلى ورع أبي بكر أتعرف ماذا فعل؟
وضع إصبعه في حلقه حتى أخرج كل الطعام الذي في باطنه، قال: [والله لو لم تخرج إلا مع خروج روحي لأخرجتها] تعرف لِمَ يا عبد الله؟ إنه الورع!
الواحد منا الآن يسأل: هل هذه المعصية صغيرة أو كبيرة؟ تعرف لِمَ؟ لأنه إذا كانت صغيرة يقول: ليس فيها بأس، وإذا كانت كبيرة يكف عنها، ولم يعلم أن الإصرار على المعصية كبيرة، وقد قال السلف: "لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظم من عصيت".
الإمام أحمد واسمع لهذه القصة العجيبة التي تتحدث عن امرأة بلغت القمة في الورع، هذه المرأة جاءت تسأل الإمام أحمد، فتقول له: يا إمام! نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية -أي: حرس الإمام أو الحاكم يمرون بجوار البيت وعندهم مشاعل أو سرج- فيقع الشعاع علينا، قالت: فهل يجوز الغزل في ضوئها؟ أي: هل يجوز أن ننسج الثياب بهذه الأضواء، لأن هذه الأضواء لعلها جاءت من حرام، ولعل هذا الضوء لا يحل لنا أن نستفيد منه هل سمعت بهذا الورع؟! إنسان يخاف أن يستخدم الضوء الذي يأتيه لعله من حرام!
تقول: هل يجوز لنا أن نغزل في هذا الضوء؟
فقال الإمام أحمد: من أنتِ؟ فقالت هذه المرأة: أنا أخت بشر الحافي - وهو أحد الورعين والصالحين الزاهدين، زهدوا في الدنيا، فبكى الإمام أحمد ثم قال: من بيتكم يخرج الورع، ورع وأي ورع يا عباد الله؟!
الآن المرأة تقول لزوجها: ادخل في هذه التجارة أو ساهم في هذه الشركة، يقول الرجل: والله كأن فيها ربا، فتقول: كل الناس يفعلونه، ليس هناك بأس أن ندخل في هذه التجارة، لعلنا نكسب بعض المال انظروا -يا عباد الله- إلى ضعف الإيمان، وقلة الورع، وضعف اليقين بالله جل وعلا.