اعلم -يا عبد الله- أن المؤمن والعاقل منا لا يضمن نفسه أنه سوف يدرك هذا الشهر، فليكن متأهباً له فرحاً به، فلربما يؤجر بقيامه وصيامه وإن لم يأتِ عليه هذا الشهر.
هذا الشهر يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (إذا جاء رمضان فُتِّحَت أبواب الجنان):
فُتِّحَت يا عبد الله أتعرف أبواب ماذا؟!
إنها أبواب الجنان! أبوابٌ إذا فتحت خرجت رائحة من الجنة تُشَمُّ على مسيرة أربعين عاماً.
أبواب الجنان التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، سوف تفتح بعد بضعة أيام، فكن مستعداً لها فلربما تُكتب من أهلها، وأنت لا تعلم.
قال: (وغُلِّقَت أبواب النيران) نعم -يا عباد الله- فالنار في شهر رمضان مغَلَّقة، بل يكتب الله عزَّ وجلَّ في كل ليلة عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة من ليالي رمضان.
فاحرص أن تكون من العتقاء من النار في شهر رمضان، (فرغم أنفه من أدرك رمضان ولم يُغفر له).
(ينادي منادٍ في رمضان: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] لم يكتبه الله جلَّ وعَلا مشقة ولا تعذيباً، ولا تكليفاً فقط {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] فلستم أول الأمم يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ فالأمم التي سبقتكم قد كتب عليهم الصيام، فهوِّنوا عليكم، وارفقوا بأنفسكم، واعلموا أنكم لستم أول الأمم.
قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فهذا هو غاية الصيام، وتلك هي أهدافها.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] بل يعينك الله جلَّ وعَلا في شهر رمضان حتى تصل إلى التقوى، فتصفد الشياطين ومردتها، وكم نسمع في شهر رمضان من مذنب أقبل على التوبة! ومن متبرجة تحجبت! ومن تارك للصلاة صلى! ومن بخيل أدى زكاة ماله! ومن مذنب بكى لله وخشع! ومن فاسق فاجر أقبل على الله بالطاعات والحسنات؟!
لِمَ يا عبد الله؟! لأنه شهر التقوى والرحمة (رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه، ثم رَغِمَ أنفُه من أدرك رمضان ولم يُغفر له) شهر الرحمات -يا عبد الله- تتنزل فيه الرحمات، وتقبل فيه الأعمال، بل من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه.
إذا فاتك هذا الفضل، أي صمتَ ولم يُغفر لك فاعلم أن (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) فإن قمت رمضان ولم يُغفر لك فالفرصة ثالثة لا تفوتك: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه) ليلة القدر يا عبد الله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:2 - 5].
أتعرف ما هو الصيام يا عبد الله؟!
ليس هو امتناع عن الأكل والشرب والجماع وغيره من المفطرات، بل هو شهر الصيام الذي يتلذذ به الصائمون لمن تترك طعامك وشهوتك يا عبد الله؟ لله جلَّ وعَلا، يقول الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي) من الذي أمر به؟ الله، ولمن تصوم؟ لله، ومن الذي يثيب عليه؟ الله (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
من يمنعك -يا عبد الله- إذا خلوت في بيتك بمفردك فأكلت وشربت؟! مَن عَرفك؟! ومن اطلع عليك؟! ومن الذي علم بك؟!
من الذي يمنعك عن الطعام والشراب وأنت في السر وحدك؟! إنها مراقبة الله (إلا الصوم فإنه لي) سر بين العبد وربه (وأنا أجزي به) أتعرف ما ثواب الصائم -يا عبد الله- إذا لقي الله جلَّ وعَلا؟ الناس يدخلون من أبواب الجنان إلا الصائمين، فلهم باب مخصص بهم، لا يدخله غيرهم إنه الريان، وما أدراك ما الريان! صبروا على الصيام فوفاهم الله أجورهم، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].