السبب الثالث: من الأسباب التي يترك بعض الناس بها الدعوة إلى الله: عدم الصبر:-
فهو يترك الدعوة إلى الله جل وعلا، لسب أو شتم، أو قرار فصل، ولعلها إهانة، أُغلق الباب في وجهه، أو طُرد من البيت، قال: لن أتعب نفسي لأجل هذه المساجد، أجلس كما كنتُ في السابق، أعبد الله، وليس لي علاقة بأحد، ويتحدث بقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105].
اسمع يا عبد الله للسابقين كيف صبروا؟! وأضرب لك أمثلة للنساء قبل الرجال، لتعلم أيها الرجل! أن من النساء من صبرن على الدين، ومن الرجال من لم يصبر.
انظر إلى هذه المرأة التي شم النبي صلى الله عليه وسلم رائحتها في السماء، رائحة طيبة، قال لجبريل: (ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون) خادمة، وظيفتها تمشِّط شعر بنت فرعون، الذي كان يقول لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] أنا إلهكم، فاستحيا النساء، وذبح الأبناء، الدماء تسيل في الشوارع، بذنب وبغير ذنب، فرعون كان يقوم في الناس فيقول لهم: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] أدلة الربوبية عنده، أنه يملك مصر: {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] انظر السخافة: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] حتى إنه قال لهم يوماً: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] أعوذ بالله! وليس أي رب، بل قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] كانت عندهم آلهة، لكن كان يقول: أنا الأعلى، أعوذ بالله: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ} [النازعات:25] قوله: الأعلى: {وَالْأُولَى} [النازعات:25] قوله: ربكم.
جاءت هذه الماشطة فآمنت بالله، خادمة عندها أولاد صغار رُضَّع، وكانت تقوم بتمشيط بنت فرعون، وفي يوم من الأيام، وكانت تكتم إيمانها، سقط المشط، فأخذت المشط، وقالت: باسم الله، فقالت البنت: مَن؟ أبي؟ قالت: بل ربي وربكِ ورب أبيكِ الله رب العالمين، طفح الإيمان، وانفجر الإيمان من القلب، لم تبالِ بقتل ولا بسفك دماء، ولا بغير هذا، لم ترفق بأولادها، قالت: بل ربي وربكِ ورب أبيكِ الله رب العالمين، فتهددتها وقالت: سأخبر أبي، قالت: أخبريه، فأُخْبِر فرعون، فاستدعيت الماشطة، إنا لله وإنا إليه راجعون!
ثم سألها -وراءك أولاد، وراءك بيت يا عبد الله! وراءك أهل تنفق عليهم، هذه ليس وراءها رجل، وراءها أولاد صغار، جيء بالماشطة في قصر فرعون- قال لها فرعون: أَوَلَكِ ربٌ غيري؟! قالت والموت ينتظرها، والدماء تسيل في الشوارع، والأولاد خلفها قالت: نعم، ربي وربكَ الله رب العالمين.
انظر إلى الداعية إلى الله، بدأت الآن تدعو فرعون إلى الله جل وعلا، فتقول: ليس ربي فقط بل ربي وربك، أي: ارجع إلى الله يا فرعون! امرأة خادمة ماشطة، قال: ما تقولين؟ قالت: أقول: ربي وربك الله ورب العالمين، أي: فافعل فما تريد، ما قتلها، بل جاء بأولادها الصغار، والأم تقتل نفسها ولا ترى أولادها يصيبهم شيء، فجيء بأولادها الصغار، الرضع يا عبد الله! وأحميت القدور.
أحميت القدور، وجيء بولدها، وتخيل المنظر، الولد لما يُجَر، يلتفت لمن؟ لأمه، وتخيل المنظر، يظنه لا يبكي، نعم يبكي، المشهد يقتضي أنه يبكي، وأن يستنجد بأمه، وأن قلب الأم قد تفطر، وأن الموت أمامه، والجنود يسحبونه، ولعلهم يتضاحكون، وفرعون أمامها، وينتظر منها كلمة تنقذ أولادها، ولكنه الصبر، أُخذ الولد الأول، فيرمى في القدر وهو حي يصيح، ويحترق، وينفصل اللحم عن العظم، وهي تراه، حتى طفحت العظام وذابت اللحوم، والولد الآخر -والقصة حقيقية يا عبد الله- الولد الآخر هكذا، والأطفال ينظرون إلى إخوانهم، والولد الثالث، حتى فني أولادها جميعاً، ما بقيت إلا العظام، جيء بها الآن تُجر إلى ذلك القدر، فقالت لفرعون والتفتت: لي إليك حاجة، فرح فرعون، ظن أنها سوف ترجع عن دينها، قال: ما تريدين؟ قالت: أسألك: أنك إن أحرقتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي في كفن واحد، وتدفننا جميعاً، عجب فرعون وقال: ذلك لك من الحق علينا، فإذا بها ترمى في القدر وتحرق معهم.
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] * {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3] لا تظن -يا عبد الله- أن هذا الدين هكذا، الحمد لله نصلي في المسجد ونرجع، ولا شيء، أتعرف لِمَ؟ لأنه يُبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه قوة وزيادة اشتد عليه البلاء، وأشد الناس بلاءً الأنبياء.
فهذا زكريا تبعه قومه ليقتلوه، تخيل، نبي يدعو إلى الله، ليتهم طردوه من بيته بل تبعوه ليقتلوه، زكريا -يا عبد الله- الذي ما كان بدعاء ربه شقياً، لو رفع يديه لأهلك الله قومه، تبعوه فدخل في الغابة، وهم يركضون خلفه، والشيطان معهم، حتى فتح الله له شجرة، فدخل فيها، وأغلق الله الشجرة عليه، ولكن بقي شيءٌ من ثيابه خارج الشجرة، فجاء الشيطان يدل الناس على مكانه، فقال: هذا مكان زكريا، دخل في الشجرة وهو حي، فإذا بقومه يأتون بالمنشار، لينشروا زكريا، فإذا به لما بدأ المنشار ينشره يئنُّ من الألم، فقال الله: وعزتي وجلالي لئن لم يسكن أنينك لأقلبن الأرض عليهم، فسكت زكريا، وتحمل العذاب، حتى لا يهلك الله قومه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
الواحد منا يدعو سنة أو سنتين قال: مللتُ، ماذا يا عبد الله؟! أنت داعية إلى الله جل وعلا حتى تخرج روحك من جسدك، ادعُ إلى الله في السوق، ادعُ إلى الله في الشارع، بعض الناس للأسف إذا أُغلق الباب في وجهه ترك الدعوة إلى الله جل وعلا، وإذا بصق في وجهه قال: بطَّلنا الدعوة إلى الله، هذا محمد عليه الصلاة والسلام يسجد عند الكعبة، فإذا بـ أبي جهل يقول لقومه: [من يذهب إلى سلى جزور بني فلان، فيرميه على ظهر محمد؟] عليه الصلاة والسلام، فيقوم أشقى القوم إلى سلى جزور بني فلان فيأتي به فيرميه على ظهره عليه الصلاة والسلام، قذارة، ونجاسة البعير، يرميها كلها على ظهره عليه الصلاة والسلام، ولم يستطع أن يرفع رأسه عليه الصلاة والسلام، ولم يستطع أحد من الصحابة أن يتحرك، كل منهم قد كتم إيمانه، وآمن سراً، فإذا بـ فاطمة وكانت بنتاً صغيرة جويرية تركض ركضاً إلى أبيها، وهي تبكي، حتى جاءت إليه تزيح الدم وسلى الجزور عن ظهره عليه الصلاة والسلام.
أناس يُضربون بالسياط، أناس يُحمى الحديد فيطفأ في ظهورهم، أناس يوضعون على الجمر، فينسلخ الجلد عن اللحم، عمار يقف وأمه أمامه تضرب وتجلد، ويمر عليه الصلاة والسلام عليهم فيقول: (صبراً آل ياسر -ما عنده شيء، ما عنده جنود، ما عنده جيش- فإن موعدكم الجنة) تريدون الجنة؟ هذا طريقها، جنة بغير بلاء ومكاره، ليست هناك جنة: (حفت الجنة بالمكاره) فإذا بـ عمار ينظر إلى أمه فيقوم أبو جهل الطاغية فرعون هذه الأمة، فيأخذ حربة بيده، فيطعن أم عمار في فرجها، فيسيل الدم، وهي تصيح حتى تموت، من ينظر إليها؟ عمار يا عبد الله، ابنها الصغير، ينظر إلى أمه تعذب هذا العذاب، لكنه صبر في سبيل دين الله جل وعلا.
خباب قال: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟!) جاع الصحابة ثلاثين يوماً، ليس عندهم طعام ولا شراب، أطفالهم يصيحون من الجوع، والمشركون يأكلون اللحوم والأطعمة، حتى يقول عليه الصلاة والسلام: (ليس لي ولـ بلال طعام إلا ما يواريه بلال تحت إبطه) يخفي الطعام بلال تحت إبطه حتى يأكله عليه الصلاة والسلام، أكلوا ورق الشجر، ونحن للأسف لأجل وجبة غداء تركنا الدعوة إلى الله، لأجل وجبة عشاء نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأجل بطوننا، لأجل فروجنا، إلا من رحم الله جل وعلا، فيأتي خباب فيقول: (ألا تدعو لنا؟! -ماذا يريد خباب؟ يريد دعوة إلى الله، أتعرف ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ - قام مغضباً وقد تغير لون وجهه فقال: يا خباب! إنه كان فيمن كان قبلكم، يؤتى بالرجل -انتبه! - فتحفر له الحفرة -وتخيَّل! - فيوضع فيها، ويؤتى بالمنشار فيوضع على مفرق رأسه -فيفرق فرقتين، ليس هناك مخدر، تخيل المنشار على رأسك، ويبدأ ينشر الرأس، ولا تموت إلا بعد ملل، إنا لله! لِمَ كل هذا؟ - قال: ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه -يفصل اللحم عن العظم وهو حي- قال: لا يرده ذلك عن دينه لكنكم قوم تستعجلون).
انظر يا عبد الله! إلى هذا العالم الداعية، دعا إلى الله جل وعلا في بلده، وأطلق فتوى تعارض الطاغية في بلده في ذلك الحين، وسمع الملك الطاغية أن عالماً في بلده أصدر فتوى تعارض سياسته، فاستدعاه في القصر، وكان طاغية جباراً ظالماً، يسفك الدماء، فاستدعى ذلك الرجل العالم الداعية، فقال له: سمعنا أنك أفتيت فتوى، قال: وما هي؟ قال: سمعنا أنك تقول: لو كان عندك عشرة أسهم لرميت النصارى بتسعة، ورميتنا بسهم واحد، هل قلت هذا؟ لو قال: نعم، يقتل الآن.
فقال هذا العالم الداعية: لا والله ما قلت هذه الفتوى، ففرح الطاغية، وقال: إذاً ماذا قلتَ؟ قال: قلتُ: لو كان عندي عشرة أسهم لرميت النصارى بسهم واحد، ورميتكم بتسعة.
صححِّ الفتوى، أنتم تسعة أسهم، والنصارى واحد، فقال: ماذا تقول؟ قال: أقول ما تسمع.
فما قتله الملك، بل صلبه بين الناس، وقال ليهودي -أشد الناس عداوة-: اسلخ جلده من رجليه إلى رأسه، ولا تقتله.
اسلخ الجلد وهو حي، فجاء أمام الناس والناس ينظرون.
للأسف ينظرون إلى هذا العالم يُضرب، وهذا يُقتل، وهذا يُسجن، وهذا يُبعد، وهذا يُضيق عليه، والناس يتفرجون، كل منهم يخاف على أولاده، وعلى ماله، وعلى نفسه، إلا من رحم الله، فإذا بهذا اليهودي يسلخه من رجليه، تخيل الآن المنظر، يسلخ الجلد وهذا العالم الداعية يقول: {حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] ويرددها: {حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] وإذا به يسلخه حتى وصل إلى صدره، وهو يردد هذا الذكر، فتأخذ اليهودي رأفة؛ فيطعنه بالخنجر في قلبه، حتى مات: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
وهذه امرأة تحمل رضيعاً بيدها، وأمامها أخدود مليء بالنيران، يقال لها: ترجعي عن دينك أو ترمي بنفسك والرضيع في النار؟ قالت: أرمي بنفسي، فلما أرادت أن ترمي نفسها، ترددت، وقالت: ما ذنب هذا الرضيع؟! أنا أحرق نفسي لله، لا بأس، روحي فداء لدين الله، لكن هذا الرضيع ما ذنبه؟! ما جريمته؟! لِمَ أحرقه بهذه النيران؟! فإذا بها تتردد وتتقاعس، فينطق الله الرضيع في المهد فيقول: يا أماه! اثبتي فإنك على الحق.
فترمي بنفسها ورضيعها في النار: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7].
لم كل هذا؟!
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
لا تقل يا عبد الله: أنا ما أُبتلى!
أقول: يبتلى المرء على قدر دينه.