أنصحك -أخي في الله- أن تتعاهد إيمانك، وتحاسب نفسك، اجلس مع نفسك هذه الليلة ثم سلها: ماذا تقدم لدين الله؟ ماذا قدمت -يا نفس- في الدعوة إلى الله؟ هل أنت من الذين يخادعون أنفسهم، الذين لا همَّ لهم إلا الجلوس والحديث واللغو والكلام، ثم يرجع إلى البيت فينام، وهكذا حياته كلها؟ حاسب نفسك ثم أكثر من العبادات {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ينتبهون فيبصرون، ينفض الغبار عن نفسه، ويرجع إلى إخوانه، ويضع يده في أيديهم، ويقول: أرجع معكم مرة أخرى، ماذا تريدون؟ ماذا تطلبون؟ أموالي للدعوة إلى الله، وقتي للدعوة إلى الله، جسدي للدعوة إلى الله، ماذا يريد الله مني؟ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فهل بعت نفسك؟ وهل تمت الصفقة؟ ما هو الثمن؟ إن الثمن هو الجنة: {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
بعها وتوكل على الله، وسر في طريق الدعوة، ولا تقل: عندي ذنوب ومعاص، فكل الناس يذنبون
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمدِ
كل الناس عصاة ومذنبون، فما بالك تمنعك المعاصي والذنوب، وعليك ألاَّ تجمع ذنباً على ذنب، ولا تجمع معصية إلى معصية، وأدعوك أن تصفِّي قلبك مرة أخرى، ضع يدك في يد إخوانك، وابدأ معهم طريقاً جديداً وصفحةً جديدة، وقل مع إخوانك: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
قيل للبخاري: إن أقواماً يقولون فيك كذا وكذا، فالتفت إليهم وقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] قالوا: ألا تدعو عليهم؟! قال: سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض) إنها قلوب كبيرة، وصدور شُرحت بالإسلام.
وهذا الإمام أحمد يبكي ليلة كاملة، فيقال له في الصباح: ما بالك -رحمك الله- تبكي في الليل؟ قال: مر عليَّ في الدرس قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فتذكرت المعتصم الذي كان يأمر بجلدي، فسجدت لله في الليل أبكي أن يحلله الله مني.
الله أكبر! هل وصلنا إلى هذه الدرجة؟ هل وصلنا إلى هذه السورة؟
قلوبنا -أيها الإخوة- قد دخلت فيها الذنوب، وران عليها الذنوب، حتى أصبح أحدنا لا يتحمل أخاه، ولا يحتمل كلمة.
وهذا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب في منى يزاحمه رجل فيلتفت إليه فيقول له: إني لأظنك رجل سوء، فيبتسم سالم ويقول: ما عرفني إلا أنت.
نعم والله، الناس يظنوني رجل خير لكنك الوحيد الذي عرفتني.
ويأتي الحسن بن الحسن، ويتكلم على زين العابدين، فذهب إليه في البيت وطرق عليه الباب، فخرج وتعجب! ما باله يأتيه في الليل؟! فقال له: يا فلان! إن كان حقاً ما قلته عني فغفر الله لي، وإن كان كذباً فغفر الله لك، والسلام، وتركه ومضى، فلحقه الحسن بن الحسن، فعانقه وأخذ يبكي ويطلب منه أن يعفو عنه، فقال: لا بأس عفا الله عنك.
حتى رثى لحاله وهو يبكي، وقال: لا والله لا أعود لأمرٍ تكرهه بعد هذا.
ألا نكون مثلهم؟ ألا نأتي إلى إخواننا ونضع أيدينا في أيديهم، ونبدأ معهم مرة أخرى في الدعوة إلى الله؟! أقلَّ القليل أن ندعو إلى الله فيما نتفق عليه، فنحن متفقون أنه يجب علينا أن ندعو الناس من الكفر إلى الإيمان، ومن ترك الصلاة إلى إقامتها، ومن البدعة إلى السنة، ثم إن اختلفنا ينصح بعضنا بعضاً.
وأنصحك -أخي الحبيب- أن تنظم وقتك مرة أخرى، وتحاسب نفسك: كم ساعة للدعوة إلى الله؟ وكم ساعة لنفسك ولأهلك ولزوجك؟ وتكون عادلاً، وتنصف في توزيع الأوقات، ساعة في الدعوة على الأقل وخمس ساعاتٍ لأهلك ونفسك، فكن عادلاً ولا تظلم نفسك ولا تبخسها حقها.
وأنصحك أن تقرأ سير الأنبياء والصالحين ألم تسمع بنبي أخذ من بين يدي أبيه وأمه صغيراً، ثم رمي في الجب وكاد أن يُقتل، ثم بيع في الأسواق زهيداً رخيصاً عبداً يباع ويشترى، ثم أصبح خادماً في قصر العزيز، ثم تعرض للفتن، ثم ساءت سمعته في الناس وتكلم الناس في عرضه، ثم يُقذف في السجن بضع سنين، فعندما دخل وجد صاحبين في السجن فقال لهم: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] فلو دخلت السجن كن داعية إلى الله، وفي المدارس، والوظائف، في العمل، والسيارة، والبيت، والشارع، والمسجد، وكل مكان كن داعية إلى الله.
ألم تسمع قصة نوحٍ عليه السلام؟!
ألم تسمع قصة ذلك المجاهد الشاب عقبة بن نافع، وكيف كان يدعو إلى الله بسيفه وفرسه، حتى وصل إلى المحيط الأطلسي وعمره خمسٌ وعشرون سنة، فيدخل بفرسه إلى البحر، ويبلل حوافر الفرس، ويرفع سيفه وهو يقول: والله لو أعلم أن خلف هذا البحر قوماً وأرضاً لخضته بفرسي هذا هكذا يكون الجهاد!
ألم تسمع بـ جعفر الطيار الذي حمل راية الدعوة والجهاد بيده اليمنى فقطعت، ثم حملها بيده اليسرى فقطعت، ثم حملها بين عضديه فتكسر الرماح في ظهره وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرة بعيدةٌ أنسابها
وأنصحك أن تدعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفض الغبار عن نفسك، وتقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) تدعو بهذا الدعاء صباح مساء، ليل نهار، ثم تنفض عن نفسك الغبار وترفع يدك إلى الله وتدعو الله عز وجل أن يعينك، وتقول: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250].
يقول زيد بن ثابت: لقيت سعد بن الربيع في إحدى المعارك وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول لي:: بلِّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَّي السلام، وقل له: إني أجد ريح الجنة.
ثم قال له: قل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف.
ثم فاضت روحه إلى الله.
فلا عذر عند الله، إن يتكلم في الدين ويهان الدين في كل مكان ويستهزأ بسنة سيد المرسلين، وفينا عين يطرف.
أقول هذا القول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وجزاكم الله خيراً.