أم المؤمنين تهجر ابن الزبير بسبب كلمات

روى البخاري من حديث عوف بن الطفيل وعروة بن الزبير قال: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أحب البشر إلى خالته عائشة رضي الله عنها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبر الناس بها، وكانت تكنى به، فيقال لها: أم عبد الله، والخالة بمنزلة الأم، وهي هنا أم لجميع المؤمنين بنص كتاب الله، وكانت رضي الله عنها لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله إلا تصدقت به

لأن راحتها بحرٌ وليس لها ردٌ ومن ذا يرد البحر إن زخرا

بحرٌ ولكنه صافٍ مواهبه والبحر تلقى لديه الصفو والكدرا

فقال عبد الله حدباً على خالته في بيعٍ أو عطاءٍ عظيم أعطته، وقيل: في دارٍ باعتها وتصدقت بثمنها؛ قال: والله لتنتهين خالتي عائشة أو لأحجرن عليها، ينبغي أن يؤخذ على يديها.

قد فاته القول الرقيق فمال نحو غليظه

فقالت رضي الله عنها وأرضاها: أيؤخذ على يدي؟ أهو قال ذا؟ لله علي نذر ألا أكلم ابن الزبير أبداً.

يقول ابن حجر رحمه الله: عائشة أم المؤمنين وخالة عبد الله، ولم يكن أحدٌ في منزلته عندها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها، ورأت في كلامه هذا نوع عقوق، والشخص يستعظم من القريب ما لا يستعظمه من الغريب، فكان جزاؤه عندها أن تركت كلامه كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعبٍ وصاحبيه لتخلفهما عن تبوك، ثم إن هجر الوالد ولده والزوج زوجه لا يتضيق بثلاث، فقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً، ويحمل على ذلك ما صدر عن عائشة رضي الله عنها وكثيرٍ من السلف من الهجر لبعضهم مع علمهم بالنهي عن المهاجرة والله أعلم.

وطال الهجر على ابن الزبير، وضاقت به الأرض، وضاقت نفسه حتى صار:

كأنه فارس لا سيف في يده والحرب دائرة والناس تضطرب

أو أنه مبحرٌ تاهت سفينته والموج يلطم عينيه وينسحب

أو أنه سالك الصحراء أظمأه قيظ وأوقفه عن سيره التعب

فاستشفع إليها بالمهاجرين، فقالت: والله لا أشفع فيه أحداً، ولا أتحنث في نذري ولا آثم فيه لكأنك به وهو يهمهم ويقول:

وضاقت بي الأرض حتى كأني من الضيق أصبحت في محبسي

وعندها كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود، وهما من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أرق شيءٍ لهما لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: ناشدتكما الله لما أدخلتماني على خالتي عائشة! فإنه لا يحل لها أن تنذر قطيعتي إلى أبد، إن كانت عقوبة على ذنبي، فليكن لذلك إلى أمد فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا، قالت: نعم كلكم -لا تعلم أن معهما ابن الزبير - فقالا له: إذا دخلنا، فاقتحم عليها الحجاب، فلما دخلوا اقتحم عليها الحجاب، فاعتنق أمه عائشة وطفق يناشدها ويبكي، والمسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان لها: يا أم المؤمنين! قد نهى صلى الله عليه وسلم عما علمت من الهجر، وأكثرا عليها من التذكرة والتحريم، وطفقت تذكرهما وتقول: نذرت والنذر شديد، ولم يزالا بها يكلمانها حتى كلمته وعفت عنه.

فلا تسل لكأنه عبدٌ مملوكٌ أعتقته، أرسل إليها بعد ذلك عبد الله بعشر رقاب فأعتقتهم جميعاً لوجه الله، ثم لم تزل تعتق حتى أعتقت أربعين رقبة، كل ذلك مبالغة منها في براءة ذمتها رضي الله عنها، وكان يكفيها عتق رقبة، ولكن:

طابت منابتها فطاب صنيعها إن الفعال إلى المنابت تنسب

يا بنة الصديق طيبي وانعمي ذاك حكم الله خير الحاكمين

وكانت تذكر نذرها ذلك، فتبكي حتى تبل دموعها خمارها، فرضي الله عنها وأرضاها:

بعض المعادن قد غلت أثمانها ما خالص الإبريز كالفخار

بين الخلائق في الخلال تفاوت والشهد لا ينقاس بالجمار

وكم من حروفٍ تجر الحتوف!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015