فقام كدار المسالك ومعه أشقى القوم، وجمعا سبعة من أصدقائهما في تلك القرية كما قال الله جل وعلا: {تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48] اثنان ومعهم سبعة، فاجتمعوا على هذه الناقة، فرموها بالنبال، فسالت الدماء، ثم حزوا رأسها وقطعوها، فرغت رغاء سمعه كل من كان بحولها، فسمع ابنُها هذا الرغاءَ فولَّى وهرب، قال بعض المفسرين: دخل في الصخرة التي خرج منها، وقال بعضهم: بل تبعوه وقتلوه كما قتلوا أمه، فرغى ثلاث مرات.
فنظر صالح عليه السلام إلى ناقة الله، نظر إليها ميتة مقتولة، فبكى صالح عليه السلام بكاءً شديداً مراً، وأشفق على قومه فقال لقومه: أدركوا ولدها لعل الله أن يتوب عليكم، أدركوا ولدها، فلحقوا ولدها فإذا هو مقتول كما قتلت أمه، فنظر صالح وبكى، وقال لقومه: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود:65] ثلاثة أيام لا تعيشون بعدها، ويأتيكم عذاب الله جل وعلا.
فنظروا إلى صالح وكانوا يعلمون أنه صادق.
فلما جاءوا اليوم الأول يوم الخميس وأصبحوا فإذا الوجوه كلها مصفرَّة، وجوه القوم كلها قد اصفرَّت وقد جفت العروق، فنظروا إلى بعضهم بعضاً فلما أمسوا قال قائلهم: ألا قد ذهب يوم من الأجل، ألا قد ذهب يوم من الأجل!
فلما أصبحوا في يوم الجمعة إذا وجوههم كلها قد احمرَّت، وعلموا بقرب الموعد، فلما أمسوا قالوا: ألا قد مضى يومان من الأجل، ألا قد مضى يومان من الأجل!
فلما جاء اليوم الثالث أصبحوا وقد اسودَّت الوجوه، فلما أمسوا قال قائلهم: ألا قد مضى الأجل، ألا قد مضى الأجل!
فحفر كل واحد في غرفته قبره، وجلس فيه، وتحنط، وتكفن، وانتظر وعد الله جل وعلا، وقبل الفجر أوحى الله لصالح: اخرج أنت ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل من قومه، قال بعضهم: مائة وعشرون فقط، كل هذه السنين لم يؤمن مع صالح إلا مائة وعشرون نفساً، وبقي خمسة آلاف بيت، كلهم كفروا بالله، قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65].
فلما جاء اليوم الرابع وقد انتهت المدة ومضى الأجل، أصبحوا وقد وبزغ الفجر، وإذا بهم يسمعون صيحة من السماء، والأرض ترجف تحتهم، فإذا بأنفسهم كلها قد زهقت وخرجت إلى الله، وقد تقطعت القلوب: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} [هود:67 - 68] عارضوا أمر الله، وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفروا بربهم جل وعلا، ولم يحكموا بينهم بما أنزل الله، بل عبدوا غيره ولم يشكروه جل وعلا.
فإذا بالجنات، وبالعيون، وبالأنهار، وبالبيوت الفارهة، وإذا بالقصور كلها {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود:68] تمر على ديارهم -وهي موجودة إلى هذه اللحظة- فترى أثر اللعنة، وأثر الغضب على بيوتهم، بل مر عليه الصلاة والسلام على بيوتهم في غزوة تبوك، فسمع أن بعض الصحابة قد ذهب مسرعاً ليرى قصورهم وبيوتهم قد نحتت في الجبال، فنهاهم عليه الصلاة والسلام وقال: (لا تدخلوها إلا وأنتم باكون، فإن لم تبكوا فتباكوا؛ أن يصيبكم ما أصابهم) أي: لعله يصيبكم العذاب الذي أصابهم، فإن اللعنة قد نزلت في ديارهم، وإن غضب الله قد حل بهم.
يقال: إن رجلاً من قبيلتهم قد نجا، تعلمون لِمَ؟
لأنه كان وقتها في حرم الله جل وعلا، كان يعبد الأصنام في بيت الله الحرام، وكرامة لهذا البيت لم تأخذه الصيحة، فلما مرت الأيام -ويقال له: أبو رغال - خرج من حرم الله، فلما خرج أصابته الصاعقة، فإذا به يخر على الأرض صريعاً، حتى مر عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين بثقيف، وثقيف هؤلاء جدهم أبو رغال، فلما مر بهم قال لهم: (قبر مَن هذا؟ قالوا: قبر جد من جدودنا، قال: هذا قبر أبي رغال، هذا الذي نجا من قوم صالح، وعلامته: أن تجدوا في قبرة غصناً من ذهب) فتناهشه القوم، فأخرجوا ذلك الغصن، صدقاً لنبوته عليه الصلاة والسلام.
عباد الله! هذه القصة فيها من العبر الكثيرة ما سوف نرجئه إلى الخطبة الثانية.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.