وبنو آدم على هذا أيضاً، لم تختلف سنة الله فيهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قبض قبضة من جميع الأرض فخلق منها آدم -صلى الله عليه وسلم- فجاء بنوه الأحمر والأسود وبين ذلك، وجاء بنوه الطيب والخبيث وبين ذلك)، فترى من بني آدم أقواماً من ذوي القلوب اللينة الطيبة، وترى من بني آدم أقواماً من ذوي القلوب التي هي أشد من الحجارة قسوة، كما قال تعالى في شأن أقوام: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74]، وترى من بني آدم رجلاً كريماً في غاية الكرم، وآخر بخيلاً في غاية البخل، ترى من بني آدم رجلاً شجاعاً في غاية الشجاعة لا يبالي بحال من الأحوال، وترى من بني آدم رجلاً جباناً في غاية الجبن، ترى من بني آدم رجلاً ماكراً كمكر الثعالب بل أشد، وترى من بني آدم رجلاً ساذجاً لا ينم إلا عن سجية طيبة ولا يكاد يضمر شراً لأحد، وتراهم في الألوان على هذا النمط، فترى من بني آدم من هو من ذوي السواد الداكن الشديد، وترى الأبيض الأمهق، ترى من بني آدم رجلاً خفيف الدم تحبه وتستسيغه لأول وهلة تراه، وترى من بني آدم رجلاً ثقيلاً بغيظاً تكرهه من أول وهلة تراه، ترى من بني آدم أقواماً جبلت ألسنتهم على إخراج الكلمة الطيبة، وترى آخرين من بني آدم جبلت ألسنتهم على إخراج الكلام الخبيث، كما قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]، ومن أمثل ما قيل في تفسيرها: الكلمات الطيبة تخرج من الطيبين، والكلمات الخبيثة تخرج من الخبيثين.
ترى من بني آدم رجالاً خيرين طيبين يسعون لإعمار بيوت الله بأموالهم وأجسامهم، وترى من بني آدم أقواماً مفسدين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعون في خرابها، ترى من بني آدم رجالاً يسعون لرعاية الأيتام والإنفاق عليهم، وترى من بني آدم من يأكل أموال اليتامى ظلماً، هذه سنن لله جرت في الخلق وجبل عليها الخلق، وإلا لما خلق الله النار، ولما فاضل بين الدرجات، ولما باعد بين الدركات، قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21].
ترى حتى في خير القرون قرن النبي محمد عليه الصلاة والسلام وصرفاً للنظر عن الجبابرة وأهل الكفر: كـ أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف، بغض النظر عن هؤلاء الكفرة الفجرة، فإنك إذا نظرت بين صفوف المسلمين وبين صفوف متبعي رسول الله في الظاهر رأيت أخلاقاً شتى، فترى رجلاً كريماً جواداً كـ عدي بن حاتم الطائي وكـ سعد بن عبادة وكـ جعفر بن أبي طالب الذي يقول فيه أبو هريرة: (ما رأيت رجلاً أكرم من جعفر بن أبي طالب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنا نذهب إليه يطعمنا ما عنده، فإذا لم يجد شيئاً يعصر القربة التي فيها السمن حتى يستخرج كل ما فيها، ثم يقطع لنا القربة حتى نلعق ما بداخلها، من شدة الجوع الذي أصابنا) ترى قوماً كهؤلاء الكرام، وفي المقابل ترى من هم أشحة، فقد قالت هند لرسول الله: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي) وهو زوجها، فمع سيادته لقومه إلا أنه يؤثر عنه البخل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: سيدنا الجد بن قيس على أنَّا نبخله يا رسول الله! ققال عليه الصلاة والسلام: وأي داء أدوى من البخل؟) ترى من أصحاب رسول الله من هو مشهور بالشجاعة العظمى كـ حمزة وعلي وخالد رضي الله تعالى عنهم، وترى من أثر عنه بعض الهلع في الغزوات كـ حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، وفي الوقت ذاته تراه شاعراً كريماً جليلاً ينافح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد تسربت إلى خير القرون قرن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمور التي لا ينفك عنها البشر، ومن رحمة الله بنا أنه سبحانه وتعالى بينها لنا بياناً شافياً وبين لنا طرق العلاج فيها حتى لا نفاجأ بأمور تحدث في أوساط الطيبين ومن ثم نستنكر سيرة الطيبين كلها، كلا؛ فرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم وخير نبي وقد بعث في خير أمة أخرجت للناس، وأصحابه خير الناس رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولكنهم بشر لا ينفكون أبداً عن بشريتهم، فثبت أن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ارتكب فاحشة الزنا إذ هو بشر؛ ولكنه ندم وأقلع وأناب، فأتى إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام مضحياً بنفسه وبحياته كي يطهر نفسه ويوافي ربه سبحانه وتعالى وليس عليه إثم، فلا يخفى عليكم أمر ماعز إذ جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام معترفاً بذنبه وبجريمته ويقول: (إن الأبعد قد زنى يا رسول الله!) فيأتي إلى الرسول من على اليمين فينصرف عنه الرسول إلى الشمال، فيستدير مع الرسول إلى الشمال ويقول: (إنه قد زنى يا رسول الله!) فينصرف الرسول عنه إلى الناحية الثالثة، فيأتي إلى الرسول من تلقاء وجهه ويقول: (إنه قد زنى يا رسول الله!) فيقول الرسول: (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت)، حتى أقر الرجل بجريمته وجريرته فأقيم عليه الحد حد الرجم ومات إلى رحمة الله طاهراً من ذنبه، وترى آخر يمارس الزنا زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ويزني بنساء المجاهدين في سبيل الله، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه فيرجع وإذا بقوم من أهل النفاق تخلفوا وعبثوا بنساء المسلمين الذين ذهبوا للجهاد، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بالنا نخرج غزاة في سبيل الله فيتخلف أقوام نرجع وقد منح أحدهم الكثبة من اللبن للمرأة لفعل الفاحشة معها، له نبيب كنبيب التيس في نسائنا! من وجدته يفعل ذلك لأنكلن به)، فكان قوم من هذا الصنف زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قوم من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أعطاهم الله فضلاً كبيراً هائلاً في جانب، ولم يعطهم في جوانب أخر، فهذا أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه في شأنه: (ما أقلت الغبراء -أي: ما حملت الأرض- ولا أظلت الخضراء -أي: ما أظلت السماء- أصدق لهجة من أبي ذر)، ومع ذلك يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً فلا تتأمرن على اثنين، ولا تتولين مال يتيم) مع صدق لهجته، لكن هذا جانب لا يجيده أبو ذر رضي الله تعالى عنه، ويسأل أبو ذر رسول الله: كيف أفعل مع أمراء الظلم؟ فيرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البعد عن الفتن، وإلى كسر سيفه إذا وجد قتالاً بين أهل الإسلام.
فكان من أصحاب رسول الله قوم برعوا في جانب غاية البراعة، ولم يبرعوا في جوانب أخر، سنة لله جرت في الخلق، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الناس كإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة).
وقد كان هناك قوم يسعون إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بقلوب طيبة يسألونه عن أبواب الخير كي يقوموا بها ويتنافسوا في ذلك أشد التنافس، وكان هناك قوم مفسدين يطعنون في المسلمين، وليس في المسلمين فحسب، بل يطعنون في الرسول نفسه، يشتمون الرسول ويقولون عنه وعن أصحابه: (ما نرى أصحابنا هؤلاء إلا أكذبنا ألسنة، وأوسعنا بطوناً، وأجبننا عند اللقاء) وكان قوم من أهل البخل والنفاق إذا رءوا محسناً تصدق بكثير قالوا: ما تصدق بالكثير إلا رياء، وإذا تصدق بقليل قالوا: إن الله غني عن درهمه! فقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] بل لم يقف أمرهم على الطعن في الصحابة، بل طعنوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]، يطعن فيك -يا محمد- ويقول فيك: إنك تغل وتأخذ الصدقة لنفسك! فقال تعالى في كتابه الكريم مدافعاً عن نبيه: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161]، أبداً لا ينبغي أن يكون من خلق الأنبياء أن أحدهم يغل، بل أشد وأنكى من ذلك: طعنوا في عرضه واتهموا امرأته بالزنا وهو سيد ولد آدم وهي الطيبة الطاهرة، وكل ذلك لم يعكر على مسيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام، بل قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9]، فكانت مسيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لا تخلو أبداً من ابتلاءات ولا من نكد، ومضت مسيرة رسول الله منذ أن بعثه الله سبحانه وتعالى إلى أن قبضه الله عز وجل، فمنذ أن بعثه الله وهو يلاقي عناء بعد عناء صلوات الله وسلامه عليه، وعند قبضه يقول لأصحابه: (هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً)، فيختلف الصحابة فيما بينهم، يقول العباس: (قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) ويقول عمر: (حسبنا كتاب الله، إن الرسول في سكرات الموت) فماذا يقول الرسول وهو ينازع ويئن؟ فللموت سكرات كما قال عليه الصلاة والسلام