قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] المنعم عليهم فسروا في سورة النساء بقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
وقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] أي: بالهداية والتوفيق، وأنعمت عليهم بالهداية كذلك، وأنعمت عليهم بعموم نعمك.
وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] المغضوب عليهم هم اليهود، وقد قال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60].
قال: ((وَلا الضَّالِّينَ)) [الفاتحة:7] وهم النصارى، وقد فسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال بعض العلماء: لماذا اختص اليهود بأنهم مغضوب عليهم والنصارى بأنهم ضلال؟ فأجيب على ذلك: أن الغضب جاء على اليهود؛ لكونهم عرفوا الحق وجحدوه، كما اتضح ذلك من مجيئهم إلى رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قالوا: نجد التحميم يا محمد -أي: نصبغ وجه هذا بالسواد ووجه هذه بالسواد- ويركبا على حمار ويطاف بهما في الأسواق، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: أناشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون هذا الحد في كتابكم؟ قالوا: أما وقد ناشدتنا فإن حد الزنا في كتابنا الرجم).
وفيهم نزل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وهم اليهود حين جحدوا حكم الله، أي: أنكروه وأظهروا خلافه وأوهموا الناس أن هذا هو حكم الله.
وهنا تفهم الآية من خلال هذا المعنى، وهذا الذي اختاره الطبري رحمه الله تعالى في نهاية بحثه فيمن جحد، فاليهود أظهروا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن حد الزنا في كتابهم هو التحميم، وأخفوا عليه أن حد الزنا في كتابهم هو الرجم، فجحدوا حكم الله الذي هو الرجم وأظهروا حكماً آخر وهو التحميم.
فلذلك قال الطبري إنها فيمن جحد وإن الذي حكم بغير ما أنزل الله بلا جحود ولا استحلال فيخرج من هذا الحكم، وله تفصيل سيأتي.
فالشاهد: أن اليهود مغضوب عليهم؛ لأنهم يعرفون الحق ويجحدونه.
وأيضاً قد يطلق عليهم أنهم ضالون كذلك، فهم مغضوب عليهم وضالون، لكنهم اختصوا بالنصيب الأكبر من الغضب، والنصارى وإن كانوا مغضوباً عليهم لكنهم اختصوا بالنصيب الأكبر من الضلال.
ففسر الرسول عليه الصلاة والسلام المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى.
ومن هنا يظهر ما تقدمت الإشارة إليه في سورة النور: لماذا اختصت المرأة في الملاعنة قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9]؟
و صلى الله عليه وسلم لأنها تعرف وتوقن أكثر من زوجها ما الذي حدث؟ هل كانت مفاخذة أو كان هناك إيلاج، فهي أمور تتقنها أكثر من زوجها، فإذا أقسمت فإنها تقسم على علم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد جاء زيد بن عمرو بن نفيل كما في صحيح البخاري لما خرج يبحث عن دين غير دين أهل الشرك الذي يتعبد به أهل مكة، فذهب إلى اليهود، وقال: إني أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال: أعوذ بالله من غضب الله، والله لا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، أنا فررت من غضب الله، فهل عندكم شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه السلام؛ فانطلق إلى النصارى، وقال: إني أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: أعوذ بالله من لعنة الله، والله لا أحمل منها شيئاً أبداً، فهل هناك شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه السلام، فخرج وقال: اللهم إني أشهدك أني على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقد كان يفتخر الشعراء من أحفاده، فيقولون: وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد فكان ينقذ الموءودة، ويقول لأهل الجاهلية: أعطوني إياها أنا أكفيكموها، وإذا كبرت فأردتم أن تأخذوها فخذوها.