ومن خير ما يفعله المسلم في هذه الأشهر الحج إلى بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، وهو من خير ما تنفق فيه الأموال، وتضيع فيه الأثمان، ويبذل فيه الجهد، ومن ثم كان فريق من السلف كـ ابن المبارك رحمه الله يحج عاماً ويجاهد في سبيل الله عاماً آخر.
ومن لم يحج وهو في سعة فعليه أن يتذكر أن هذا الترك للفريضة قد يئول به إلى الكفر، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) أي: دين على الناس لربهم، وقال عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس -وذكر منها- وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلاً)، وقال عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ قال: لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم).
فالشاهد: أن لله عليكم معشر المسلمين والمسلمات فريضة كفريضة الصلاة والصوم يجب أن تؤدى ألا وهي فريضة الحج، وقد ذهب جمهور العلماء: إلى أن هذه الفريضة تجب على الفور لمن استطاعها.
بينما ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنها على التراخي، لكن الجمهور وهم الأكثر عدداً قالوا: إن وجوبها على الفور لمن استطاع للآية الكريمة {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97].
وفضلاً عما في الحج من تأدية فريضة الله علينا، ففيه كذلك عظيم الأجر وجميل المثوبة، وفيه كذلك عظيم الكفارات لكبائر الإثم ولعظام الفواحش، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحج يهدم ما قبله) وقال عليه الصلاة والسلام: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) وقال عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وقال عليه الصلاة والسلام: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد) وقال صلوات الله وسلامه عليه: (ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل -وفي رواية: كلهم في ضمان من الله عز وجل-: رجل خرج من بيته إلى المسجد كي يصلي، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً) فالذي خرج إلى الحج فهو في ضمان الله، إن مات فهو إلى رحمة الله يبعث يوم القيامة ملبياً، وهنيئاً لمن مات وهو يحج؛ إذ يحشر يوم القيامة قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، ومرحباً بها من موتة، يقوم الشخص لربه يوم بعثه وهو محرم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك فنعمت السعادة للعبد يوم لقاء الله إذ يلاقي ربه بتلك الهيئة.
فيا معشر الأخوة! لا تضنوا بالأموال ولا تبخلوا عن إنفاقها في هذا الباب من أبواب الخير، فالشيطان يأتي يبخلك ويزهدك ويخوفك الفقر، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] وربنا يقول: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] قد تقف بعرفات ترفع يديك إلى مولاك وخالقك وبارئك: يا رب! اصرف عني كل سوء ومكروه، فيصرف الله أوبئة وأمراضاً كانت ستحل بك أو ببنيك فالله لا يخلف الميعاد، ومن أصدق من الله قيلا؟! ومن أحسن من الله حديثا؟! معشر المسلمين! لا تبخلوا على أنفسكم بفريضة من فرائض الله، ولا تحرموا أنفسكم مواقف يتنزل فيها ربكم إلى سماء الدنيا فيباهي بكم ملائكته قائلاً: (انظروا إلى عبادي هؤلاء أتوني شعثاً غبراً أشهدكم أني قد غفرت لهم) فلا تبخل عن نفسك يا من وسع الله عليه! ولا تبخل عن نفسك يا من قدر عليه رزقه، فعليك بدعاء الله؛ فإن العبد إذا أخلص النية كتب له من الأجر ما يعمل وهو غني سوي، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم الأجر حبسهم العذر) فإن لم تغنموا الحج فلا يفوتنكم الدعاء بإثبات الأجر فربكم واسع العطاء، كريم جواد، سبحانه وتعالى.
اللهم يا ربنا! يا فاطر السموات والأرض! ويا مبدع السموات والأرض! أقر أعيننا يوم لقائك بالنظر إلى وجهك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
اللهم يا ربنا! أسكنا مع نبينا محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم في الفردوس، واسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
اللهم يسر لنا الحج عامنا هذا والأعوام القادمة يا رب العالمين! وأثبت الأجر لمن حرم الذهاب يا كريم! يا من لا تنفد خزائنه! يا رب العالمين! اللهم انصر الإسلام وأهله وأذل الشرك والمشركين، وأنزل اللهم رحمتك على أمواتنا وأموات المسلمين، أفسح اللهم لهم في قبورهم، ونور اللهم لهم فيها يا رب العالمين! واجعلها خير منازل، واجعل ممساهم وصباحهم دائماً في جنات النعيم، واشف اللهم أمراضنا وأمراض المسلمين.
وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.