ثم مات أقوامٌ معاصرون، ففي بلدنا هذا مات بعض أهل العلم، فالتف الناس حول جنازته كما هو وارد عن رسول الله، وفي الدعاء للأموات خير، والميت رحمه الله تعالى كان محسناً، ولكنه بشر من البشر، يجري عليه ما يجري على البشر، فقد قال الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، لكن نحن الذين جئنا بعد الأموات لا ينبغي أبداً أن نفتن بأي شخصٍ كائناً من كان؛ فعبادتنا لربنا هي الأصل، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، وليس من الأموات أحد بمعصوم، فأقوال كل شخص يحكم عليها بموافقتها للكتاب والسنة أو بمخالفتها للكتاب والسنة، ولكن الذي أحزننا -ونسأل الله العوض والخير- أن يتخذ قبر الشيخ المتوفى رحمه الله تعالى بجوار المسجد، وتنشأ حوله مقصورة، وقد علمنا جميعاً حديث نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم حين قال في مرض موته: (لا تجعلوا قبري عيداً، لا تجعلوا قبري عيداً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن من كان قبلكم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك).
معشر الإخوة: لنا شرعٌ يتبع مهما كان الميت، مات الشيخ محمد شعراوي رحمه الله تعالى، ونسأل الله أن يوسع له في قبره، وأن ينور له فيه، ولأمواتنا ولعموم المسلمين، آمين يا رب العالمين! ولكنه بشر، ملزم بشريعة رسول الله كما يلزم بها غيره، لكن عندما تفشى في أصحاب الوجاهات مخالفات للسنن، وفارقوا بها غيرهم؛ والناس يهتمون بأصحاب الوجاهات ويصلون عليهم صلاة الغائب، وصلاة الغائب لم تصلَّ إلا على من لم يصل عليه أصلاً، أما إذا مات شخص وصُلي عليه في بلدته أو مكانه فلا تشرع عليه صلاة الغائب، فنبينا ما ثبت عنه أنه صلى صلاة الغائب إلا على النجاشي، وكان النجاشي بأرض الحبشة، فمات بها وكان أهلها من الكفار، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً لأصحابه: (إن أخاً لكم قد مات بالحبشة، فصف أصحابه، وكبر بهم أربع تكبيرات)، أما حال الناس الآن: أنهم إذا مات شخصٌ له وجاهة صلوا عليه صلاة الغائب، وإذا مات مسلم آخر لم يصلوا عليه صلاة الغائب، فهذه التفرقة لا دليل عليها لا من كتاب ولا من سنة.
مات الشيخ محمد متولي شعراوي رحمه الله، وجعلوا قبره مجاوراً للمسجد محاطاً بمقصورة؛ فنخشى غاية الخشية ألا يمر عام إلا وقد أُنشئ له مولد، وقد أقيمت حول قبره بدعة، ونبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يوصي فيقول لـ علي: (لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته)، مشرفاً، أي: عالياً، إلا سويته.
وعمر لما ذهب يستأذن عائشة أن يقبر بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل ابن عمر وقال له: قل لها: إن عمر يستأذن أن يدفن بجوار صاحبيه، فإن أذنت فالحمد لله، وإن لم تأذن فردوني إلى مقابر المسلمين، فأذنت عائشة، وعثمان الخليفة البار الراشد دُفن في مقابر المسلمين، فما أخال ولا أظن أحداً أكثر منه غنى، عثمان من أهل الجنة، صاحب رسول الله، الحيي الكريم يدفن مع سائر المسلمين، وكذلك طلحة والزبير وسائر أصحاب النبي الأمين، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فالشاهد: أن الشيخ رحمه الله تعالى لا نعلم أبداً أنه أوصى أن يبنى له هذا القبر وأن يدفن فيه، ولا نعلم هل دفن فيه أم لا؟ بل يخبرنا إخواننا أنه جزاه الله خيراً دفن في مقابر المسلمين، لكن نخشى أن هذا البناء الموجود القائم الآن يحال إلى قبر، وأن ينتقل برفاته إليه، فيصبح عنده عيد من الأعياد المبتدعة، ومولد من الموالد المستقبحة المستهينة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ليس للشيخ رحمه الله ذنبٌ فيما أحدثوه من بعده، فالعزير ليس له ذنبٌ مع الذين قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ليس له ذنبٌ مع الذين قالوا: المسيح ابن الله، فإن الله قال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، وقال تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، أما نحن فيلزمنا اتباع سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وندعوا للميت بالرحمة، ولا نفتن به، ولا نصرف عن ديننا بسببه، ولا نحدث في ديننا إحداثاً ونتحمل نحن آثامها وآثام من ارتكبها، لنا ديننا ولنا هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فنحذر أيما تحذير من اتخاذ القبور مساجد، ومن المغالاة في حب الأشخاص حتى لا نفتن، ليس الشيخ محمد رحمه الله بأفضل من الحسين سيد شباب أهل الجنة، ولا بأفضل من الحسن، ولكن له منا جميعاً أن نكثر من الدعاء له ولسائر الأموات أن يرحمهم الله سبحانه، وأن يفسح لهم في قبورهم وأن ينور لهم فيها، نسأل الله سبحانه أن يوسع لهم جميعاً في القبور، وأن ينور لهم فيها.
ثم أيضاً أقواله كأقوال غيره من أهل العلم لا تؤخذ بالتسليم المطلق، بل هو قد أصاب في مسائل وأخطأ في أخرى، كما أصاب الصحابة في مسائل وأخطئوا، أقواله كأقوال غيره تعرض على الكتاب والسنة، فهما خير حكم، بل لا حكم غيرهما على الأقوال والأشخاص، فكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر كما قال الإمام مالك رحمه الله، فيا عباد الله! الله الله! في سنة نبيكم محمد وفي اتباع الشرع، لا تحيدوا عنه ولا تنحرفوا عنه.