قال تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] أي: عدوا عداً دقيقاً، وفيه دليل على الحساب، {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] فلا يجوز بحال لأي رجل طلق امرأته طلقة رجعية أن يخرجها من البيت كما يفعل بعض الجهلة من أهل زماننا، إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، وسيأتي شرح معناها إن شاء الله.
ولذلك عبر بقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] هنا تظهر النكتة والحكمة في نسبة البيوت إلى النساء، فهي في العدة ما زال البيت بيتها، ولا يحق للمرأة أن تخرج من البيت أو تأخذ ثيابها وتذهب إلى بيت أبيها وبيت أمها، ولا يحل له هو الآخر أن يخرجها.
{وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] قال بعض العلماء: إنها الزنا -عياذاً بالله- وقال بعضهم: هي البذاءة على أهل زوجها، مثلاً: امرأة متوحشة شرسة تضرب والد الزوج والزوج وأم الزوج، فتحدث مفسدة كبرى إذا كانت بهذه الطريقة الشرسة.
وهذا كله في مسألة المطلقة الرجعية، أما المطلقة ثلاثاً التي بُتَّ طلاقها فلا سكنى لها بل تحمل ثيابها وتخرج، إذ هي أصبحت أجنبية تماماً عن هذا الزوج.
ويدل لمسألة خروج المطلقة المبتوتة وأنها لا سكنى لها ولا نفقة: حديث فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها، لأنها كانت متزوجة برجل من أهل اليمن فأرسل لها بآخر ثلاث تطليقات، يعني طلقها غيابياً من اليمن، وأرسل لها مع وكيله شيئاً من الشعير فسخطته، أي: قالت: هذا قليل.
فذهبت هي ووكيل زوجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا نفقة لك ولا سكنى).
فأخذ بهذا أيضاً جماهير العلماء، وأبى ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وكان يقضي بأن كل مطلقة رجعية كانت أو غير رجعية لها النفقة والسكنى، فقال: (لا ندع كتاب ربنا)، وفي رواية فيها كلام: (وسنة نبينا)، قال عمر: (لا ندع كتاب ربنا عز وجل لقول امرأة لا ندري أنسيت أم ذكرت) فقالت عائشة: (إنما أخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت زوجها؛ لأنها كانت حادة في لسانها شيء)، يعني: شديدة في لسانها على أهل زوجها.
لكن أخذ الجمهور بمقتضى حديث فاطمة بنت قيس في أن المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها ولا سكنى، وفريق آخر ومنهم أمير المؤمنين عمر أخذ بأن لها النفقة والسكنى لما سمعتموه.
وفريق ثالث كالإمام الشافعي رحمه الله فصّل في هذه المسألة فقال: لها السكنى لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] أما النفقة فليست لها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما أقرها على مسألة النفقة.
فإتيان المرأة بالفاحشة المبينة يكسبها أشياء، منها: امرأة مثلاً زنت -والعياذ بالله- وهي متزوجة، فللزوج أن يعضلها ليذهب ببعض ما آتاها، أي: ليسترد منها بعض الصداق الذي أخذته منه: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19].
وتتسبب الفاحشة المبينة أيضاً في إخراجها من البيت إذا طلقت: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق:1].
لكن هل ينسحب هذا على رجل حزن أو غاضب زوجته، وقال لها: أنا متعب اذهبي عند أهلك.
هل يقال له: اتق الله ربك، ولا تخرجها من بيتها ولا تخرج؟ وهل يقاس ذلك على قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] فلا أخرج الزوجة في لحظة مغاضبة بيني وبينها إلى بيت أبويها؟ وهل نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق عائشة بأبويها في حديث الإفك، هذا بعيد؛ لأن عائشة هي التي قالت: (يا رسول الله ائذن لي أن آتي أبوي) وليس الرسول هو الذي طردها إلى بيت أبويها.
وعندما آلى النبي من نسائه هو الذي خرج، وعندما غاضب علي فاطمة هو الذي خرج ونام في المسجد.
وأما الاستدلال بحديث كعب فليس فيه إلا الأمر باعتزال النساء، لكن نقول: إنه لا يجوز له في الأصل أن يخرجها، لكن إن قلنا: إن الرجل استشاط غضباً ويخشى من تواجدها مفسدة أعظم فاخترنا أخف المفسدتين وقلنا: اخرجي حتى يهدأ الرجل.
نحن نقول: ليس من حقنا أن نخرجك، ولكن درءاً للشر وللمفسدة العظمى اذهبي إلى أهلك حتى يهدأ الرجل، هل نكون قد أثمنا؟ ربما يقول قائل: يجوز؛ لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام قال لزوجة إسماعيل عليه السلام: قولي لإسماعيل أن يغير عتبة الباب، يعني: أن يطلق زوجته.
نقول: لا.
فالمسألة حتى إذا أخرجها الزوج من باب اختيار أخف الأضرار فهو من هذا الباب، ليس من باب أنه يجوز له أن يخرجها.
لكن لا ينصح في كثير من الأحيان بالإخراج، لماذا؟ لأن النساء تبدأ تثرثر في الكلام زوجي ضربني، وكثير من النساء يكذبن ويغيرن في الحديث وتأتي الجارة الشريرة في صورة المتباكية والزوجة قد سكنت فتهيجها.
يقال: إن شخصاً ذهب يصالح الأعمش على زوجته، فيقول لزوجته: اصبري عليه فإنه رجل أعمى مسكين لا يرى كثيراً، وجلس يذم في الأعمش كل الذم حتى يزهدها به، فقام عليه الأعمش وضربه وقال: والله ما أتيت لإصلاحها إنما أتيت لإفسادها.
فهذا دأب أهل زماننا، تقول لها: اصبري ومع كلمة اصبري عشر طعنات في الزوج فتجعلها تبغض الزوج بغضاً لا نظير له، وقليل من الناس المصلحون والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.