فريق من أهل العلم على أنه يجب على الأب ويجب على الأم أن يعدلا في الهبة، وذلك لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (ذهبت أمي عمرة بنت رواحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني نحلت ابني هذا نحلة، أي: أعطيته هبة -وكان معها زوجها بشير - فأردت أن أشهدك على هذه النحلة، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ألك ولد غيره؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: أكل ولدك أعطيته مثل هذا؟ قالت: لا يا رسول الله! قال: ارجعي فأشهدي على هذا غيري) وفي رواية: (فإني لا أشهد على جور)، وفي ثالثة: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).
فأخذ فريق من أهل العلم من هذه النصوص وجوب العدل بين الأولاد في الهبات، ورأى فريق من العلماء وهم الجمهور: أن العدل بين الأولاد في الهبات مستحب وليس بواجب، ومن عمدة أدلتهم على القول بالاستحباب: أن الرجل أحق بماله ويتصرف فيه كيف يشاء، وإنما قول الرسول: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) أمر ندب وإرشاد واستحباب حتى لا تتولد الضغائن بين المسلمين.
ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك: ما ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه بسند صحيح: (أنه رضي الله تعالى عنه أعطى عائشة رضي الله عنها عشرين وسقاً من تمر بالغابة، وهي على بعد أميال من مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم لما حضرته الوفاة قال: يا بنيتي! إني كنت قد أعطيتك عشرين وسقاً -والوسق: ستون صاعاً كما هو معلوم- من مالي بالغابة فإن كنت جلبتيه فهو لك -أي: إن كنت أخذتيه إلى رحلك فهو لك- وإن كنت لم تأخذيه فإنما هو مال وارث فلا يحل لك أن تأخذيه)، ولم يكن أعطى سائر إخوانها مثل الذي أعطاها رضي الله تعالى عنها، حتى أسماء ما أعطاها.
فعمدة استدلالات الجمهور القائلين بأن العدل بين الأولاد في الهبات ليس بواجب وأنه مستحب: أن الأب أحق بماله، وأن احتياجات الأبناء تختلف، فهذا مثلاً ابن يدرس في الجامعة واحتياجاته تختلف عن ابن يدرس في الابتدائي، أو هذا ابن يدرس في الطب واحتياجاته تختلف عن ابن عامل، فهذا ينفق في العام ألفين أو ثلاثة آلاف، وهذا يدر دخلاً على الوالد، فمسألة التسوية في الهبات في مثل هذه الحالة تشق على الناس، فحينئذٍ قال جمهور العلماء: بأنها مستحبة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
لكن من أهل العلم من قال: إن الرجل عليه أن يعدل في الهبات قدر الاستطاعة، وما خرج عن وسعه وجهده فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، أما أمر رسول الله الصريح: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)؛ فلا يعدل عنه إذ هو حديث الرسول وهو كالنص في المسألة والله سبحانه أعلم.
ترد مشاكل ومسائل: رجل له أولاد تعلموا في كليات وأبناء آخرون لم يتعلموا، أو رجل له ولدان أحدهما عامل في شركة أو فلاح يدر على أبيه في كل يوم دخلاً، والآخر من الأبناء يأخذ من أبيه أضعاف هذا الدخل الذي يدره هذا الولد، فهذا عمل ودر دخلاً على البيت، وهذا يأخذ من الأب أموالاً كثيرة طائلة كي يتعلم بها، وهذه الأموال التي يدفعها الأب ليست بواجبة على الأب إنما هو من باب الفضل، فهل يجوز والحالة هذه أن يعطي الأب ولده العامل شيئاً من التعويض مقابل المال الذي أعطاه؟ النصوص الشرعية والقواعد العامة تجيز ذلك إذا مكنه منه قبل الوفاة، أما بعد الوفاة فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث).
ومن أهل العلم من استثنى الزمنى من الأبناء، أي: الذين عندهم مرض مزمن، وقال: يجوز للأب أن يخص من عنده مرض مزمن من أبنائه -كالبنت الكسيحة أو العرجاء التي يظن أنها لن تتزوج- بشيء من المال كهبة يسلمها إياها في دنياها كي تستعين به على نوائب الدهر.
وهذا رأي له وجاهته، ومما يشهد له قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقوله: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، (فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.