فقال الرجل: فإني متبعك، قال: (إنك لا تستطيع ذلك الآن ولكن ارجع إلى بلادك) ففيه أيضاً نوع من أنواع الفقه: أن الشخص والداعي إلى الله والآمر والناهي للناس ينبغي أن يكلفهم -إذا كلفهم- بما يطيقون، ويكلفهم بما يحتملون فإنك إذا كلفت الناس بما لا يطيقون ولا يحتملون فقد خالفت أمر ربك ابتداء ولم تُجب إلى مطلبك انتهاء، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كلف أصحابه بعمل كلفهم من الأعمال ما يطيقون وما يحتملون، وقد دعا أهل الإيمان ربهم فقالوا: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] فقال الله تبارك وتعالى لما قال أهل الإيمان ذلك: (قد فعلت قد فعلت)، وفي حديث وإن كان في إسناده كلام: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟! قال: يتحمل من البلاء أو يتعرض من البلاء لما لا يطيق) فرسولنا عليه الصلاة والسلام الذي أرسل رحمة للعالمين، الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، قال لـ عمرو بن عبسة: (إنك لا تطيق ذلك الآن، فارجع إلى بلدك) وإن أسلمت وشهدت الشهادتين، لكن لا تظهر ذلك الآن، ونفس القول قاله النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي ذر الغفاري لما جاء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قال الرسول: (ارجع إلى بلدك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني) قال أبو ذر: والله لأصرخن بها بين أظهرهم، وخرج وقالها في الملأ من قريش في قصة لا تخفى عليكم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عمرو: (ارجع إلى بلدك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني) فرجع إلى بلده، وكان يتحسس أخبار النبي عليه الصلاة والسلام، ويتسمع لها لأن هذا الأمر هو الذي يهمه بالدرجة الأولى قبل المطعم والمشرب، والزوجة والولد، والعشيرة والأقربين.
فسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد زال عنه بعض الشر الذي كان يحيط به، وزالت عنه بعض الشدة التي كانت تحل به، وهكذا فإن مع العسر يسراً، فالله يكشف الضر سبحانه وتعالى دائماً.