Q هل يجوز للحائض أن تطوف بالبيت إذا حان وقت الرحلة وما زال الدم ينزف؟ وعلى أي مذهب؟
صلى الله عليه وسلم لما حاضت صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها وكانت طافت طواف الإفاضة قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صفية قد حاضت، قال: (عقرى حلقى)، وهي كلمة تقولها العرب لا يقصدون بها معناها، (عقرى): عقرها الله، (حلقى): يعني أي: حلقها الله، الشاهد قوله: (أحابستنا هي؟ أمؤخرتنا هي؟)، أي: ستسبب لنا تأثيراً لكل القافلة، ثم استدرك وقال: (ألم تكن طافت طواف الإفاضة؟)، قالوا: بلى، قال: (فلتنفر إذاً).
إذا كانت المرأة الحائض طافت طواف الإفاضة سقط عنها طواف الوداع، وفي هذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (رخص للحائض أن تنفر إذا هي طافت طواف الإفاضة)، أما إذا لم تكن الحائض قد طافت طواف الإفاضة فقد قال الرسول لـ عائشة لما حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج إلا أن تطوفي بالبيت) يعني: لا تطوفي بالبيت مادمت حائضاً، فالأصل: أن الحائض لا يجوز لها أن تطوف وهي حائض، فالمرأة الحائض لا يجوز لها أن تطوف أثناء مدة الحيض، ولكن هناك ضرورات تجيز للحائض أن تطوف وهي حائض؟ فهناك ضرورات تبيح المحظورات، فمثلاً: لا يجوز لي أن آكل الميتة، ولكن أحياناً يجوز لي أن آكلها إذا كنت سأموت من الجوع: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173]، ولا يجوز لي أن آكل من طعام إذا لم يذكر اسم الله عليه، إذا أهل به لغير الله، لكن إذا كنت سأموت من الجوع، فيجوز لي أن آكل، لا يجوز لي بحال أن أكفر، لكن إذا أكرهت على الكفر جاز لك أن تتلفظ بلسانك، لا يجوز لي أن أصلي عرياناً، لكن إذا لم أجد ثياباً فأصلي عرياناً، لا يجوز لي أن أصلي بلا وضوء، لكن إذا لم أجد الماء فأتيمم، كذلك إذا لم أجد الماء ولا التراب أصلي بلا ماء ولا تراب.
الأدلة على هذا التأصيل لا حصر لها {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، (بعثت بالحنيفية السمحة)، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد:9]، {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]، كل هذه النصوص تعمل في مسألتنا.
نأتي إلى مسألة المرأة الحائض التي تخشى على نفسها من الضياع إذا تخلفت عن الرحلة، فمثلاً: الحكومة وضعت وقتاً محدداً لإقلاع الطائرة، والرفقة كلها ستنطلق، فمثلاً الرفقة كلها ستنطلق من جدة إلى أستراليا في يوم كذا، المرأة حائض، ماذا تصنع هذه الحائض؟ إن قلنا لها: انتظري حتى تطهري ثم طوفي تقول: نعم سأنتظر، لكن كيف أنتظر بدون محرم؟ محرمي يريد السفر إلى عمله، ويأبى البقاء معي، ولست مأمورة أيضاً بتعذيب محرمي، فماذا نصنع؟ هل يقال لها كما قال بعض الفقهاء: اذهبي إلى بلادك ولا تحلي من إحرامك، ولا يقربك الزوج إلى أن تطهري ثم ارجعي؟ فعند ذلك تقول: هذا في غاية المشقة علي، وليس معي أموال لذلك، والحكومة السعودية لا تسمح للشخص أن يدخل مرة ثانية بالتأشيرة، ووقت الحج سينتهي إذا كانت نفساء مثلاً، فهل نقف مكتوفي الأيدي أمام هذا الأمر أم تتدخل عمومات من الشرع فتحل لنا هذه الإشكالات؟ هذه المسألة أول من طرقها فيما اطلعت عليه بصورة مفصلة متسعة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لأنها تفشت بعصره بصورة كبيرة، فقد كان الناس يأتون من بلاد بعيدة، ومن قبل كان كل واحد معه جمله ينتظر زوجته وهذا أمر سهل، لكن الآن ارتباطات في مجموعات، ومطوفين، والمرأة لا تعرف، فليس كل النساء متعلمات، فالمهم أنه يخشى عليها أن تفقد وتضيع تماماً إذا لم يكن معها رجل يفهم، ونحن الآن نبني على أناس عقلاء يفهمون، لكن هناك أناس في غاية الجهل.
الشاهد: أن شيخ الإسلام ابن تيمية بنى على الضرورة التي وقعت للمرأة بما حاصله: أن الضرورة تقدر بقدرها، يعني: لا يفتح الباب ويقال: يجوز للمرأة المضطرة أن تطوف وهي حائض، لا يفتح الباب على مصراعيه، إنما يفتى لكل محتاج بالقدر الذي احتاج إليه من خلال العمومات الواردة في الشرع، أما من القائل بهذا القول؟ فهو شيخ الإسلام ابن تيمية وانتصر له انتصاراً شديداً جداً، وفي الآخر: ختم البحث بقوله: هذه المسألة ظهرت لي في زمني، ولم أر من تكلم فيها من العلماء من قبلي، فإن كان الذي ذكرته صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من الخطأ، والله أعلم.