ولتقدم بين يدي حديثك وخطابك مع الناس مقدمات إذا احتاج الأمر إلى مقدمات، فالمواضيع ذات الأهمية الكبرى تحتاج أحياناً إلى مقدمات وإلى استهلالات وإلى استفتاحات تتقدم بها بين يدي حديثك، وبين يدي خطابك، والمقدمات تتنوع بحسب المواقف، قد تتقدم الأسئلة، والكلمات باعتذارات بين يدي السؤال، كما قالت أم سليم تقدمة بين يدي سؤالها المحرج أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: (يا رسول الله! إن الله لا يَسْتَحْيِي من الحق -فهكذا قدمت هذه المقدمة- فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم إذا رأت الماء)، وقدمت أيضاً أم سليم رضي الله تعالى عنها مقدمة حسنة بين يدي إخبار زوجها بوفاة ولده، فقالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوماً أعاروا قوماً عارية، ثم جاءوا يطلبونهم عاريتهم فمنعوهم فما رأيك في هؤلاء القوم الذين منعوا العارية أن يردوها؟ قال: ما كان ينبغي لهم أن يجحدوا العارية، وما كان ينبغي لهم أن يتبرموا إذا طلبت منهم العارية، قالت: فإن الله سبحانه قد أعارك ولدك ثم قبضه إليه، فانظر كيف أتت بهذه المقدمات الحسان رضي الله تعالى عنها بين يدي حديثها.
وها هو كذلك عروة بن مسعود الثقفي يقول للقرشيين المشركين -أثناء صلح الحديبية يحثهم على الإقبال على رسول الله وهو مشرك معهم-: ألستم بالولد؟ قالوا: بلى، قال: ألستُ بالوالد -أي: بمثابة الوالد لكم-؟ قالوا: بلى، قال: ألا تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ وأهل كذا وكذا كي يقاتلوا معكم ضد محمد صلى الله عليه وسلم، فلما امتنعوا مني جئتكم بأهلي وولدي كي نقاتل معكم؟ قالوا: بلى نعلم ذلك، قال: فهل تشكون فيّ، قالوا: لا، قال: فإني أعرض عليكم خطة رشد، إن هذا الرجل أتاكم بخطة -يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم- فيها خير لكم، فدعوني حتى آتيه، فمثل هذه المقدمات قدم عروة بن مسعود حديثه مع المشركين حتى يقنعهم بمقالته، وهذا أسلوب مسلوك متبع في كتاب الله، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84 - 85]، فأحياناً يتقدم الخطاب بسؤال للفت نظر المخاطب، ولهذا سأل الرسول أصحابه جملة من الأسئلة؛ لتنبيههم على الإجابات التي تأتي بعد هذه الأسئلة حيث قال: (أتدرون أي يوم هذا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (يوم النحر، (أتدرون من الرقوب فيكم؟) قالوا: الرقوب من لا ولد له يا رسول الله! قال: (لا، ولكن الرقوب من لم يقدم شيئاً من الولد)، فأحياناً يتقدم الكلام بتقديمات على حسب ما يقتضيه المقام، إن جئت تعاتب شخصاً فلا بأس أن تثني عليه وتمدحه بالحق بين يدي العتاب؛ وذلك لأن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، فتقول للشخص أنت: سامحك الله لم فعلت كذا؟! أنت شاب نبيه وذكي من الأذكياء، فلم صنعت هذا الذي لا يليق بك ولا يليق بمستواك العقلي؟! فالانتقاد وإن كان شديداً منك، لكنه قدم بهذه الكلمات: نعهدك ذكياً، نعهدك تفهم دائماً فلم صنعت كذا؟! فيحاول المخاطب أن يرجع إلى أصله من الذكاء والنباهة فيعتذر عن الخطأ الذي صدر منه؛ كراهية أن ينفر منك، فلمّا خاطبته بهذا الخطاب الجميل أقر واعترف بخطئه، فلذلك يتقدم العتاب أحياناً بمثل هذه الكلمات: (عفا الله عنك) تثني عليهم، ثم بعد ذلك تدخل مع الثناء العتاب ضمناً، وهذا كما أسلفنا مذهب سُلِكَ، فأنت إذا جئت تكلف شخصاً بشيء ثقيل فانتظر حتى يأتي معه شيء من الأشياء الخفيفة على القلب والنفس، فأدخل هذه مع تلك، ونحو ذلك قال عمر بن عبد العزيز: إني أريد أن أخرج للناس بالمرة، أي: بالتكليف المر، أو بالكلمة المرة، فأنتظر حتى تأتي الحلوة، فأدخل المرة معها، فلذلك ينبغي أن تفهم هذا وأن تتجه إليه.
قال الله سبحانه وتعالى لإبراهيم صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:74 - 75] ثم قال الله له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:76] بعد قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} جاء بعد أن أثنى على إبراهيم بأنه الحليم الأواه المنيب، فقال الله له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}.
، وضمّن أيضاً خطابك وانتقادك دفاعاً عن المنتقد ودفاعاً عن المخاطب، فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم في شأن داود وسليمان عليهما السلام: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78 - 79] فحتى لا يُتّهم داود بقلة الفهم من أقوام جاهلين، قال تعالى بعد قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، ثم ذكر منته على داود بقوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79]، وكذلك قال ربنا سبحانه وتعالى في شأن يعقوب عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف:67 - 68]، ثم أثنى الله على يعقوب حتى لا يظن أحد ظن السوء بيعقوب صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى مثنياً عليه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68].