خذ العفو من أخلاق الناس أثناء حديثك معهم، فإذا صدرت من بعضهم بذاءات في شأنك وحسنات، فخذ الحسنات وتجاوز عن الهفوات، وتجاوز عن الزلات، وأمعن النظر في كتاب الله سبحانه، وانظر إلى مقولات الأنبياء وأهل الفضل والصلاح إذ اتُهموا، فكيف دافعوا عن أنفسهم وقت الاتهام! وإذ ظلموا، كيف دافعوا عن أنفسهم أمام الظالمين! فهود عليه السلام، قومه يقولون له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66]، فينفي ويقول: {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:67]، ونوح يقولون له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]، فيقول: {لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} [الأعراف:61]، فنوح ينفي عن نفسه الضلال، وهود ينفي عن نفسه السفه، فهما لم يردا المقالة بمثلها، فهو لم يقل لهم: بل أنتم السفهاء، ونوح لم يقل لهم: بل أنتم الضلال، لا يريدان أن يسعرا حرباً أخلاقية معهم، لا فائدة فيها ولا محصلة من ورائها، ولكن غاية ما صنعا أنهما نفيا عن أنفسهما السفاهة والضلال.
وانظر أيضاً إلى سائر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع من عاداهم، ومع من ظلمهم، واستفد من كتاب الله هذه الأخلاق الحميدة.
يوسف صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي اتهم من قبل امرأة العزيز، وقبل ذلك أُلقي في غيابة الجب إلى غير ذلك، وابيضت عينا أبيه من الحزن فهو كظيم لفقده، ويأتيه إخوته بعد ذلك فيقول لهم مقالة منبهة مذكرة: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ} [يوسف:89 - 90] بتواضع وخضوع، ولم يقل: أنا العزيز يوسف، أو أنا الملك يوسف، {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]، فقالوا حينئذ: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]، فيقول لهم عليه الصلاة والسلام: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف:92]، (لا تثريب) أي: لا تعيير ولا توبيخ ولا تأنيب، {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92]، ويوفي بما عاهدهم عليه، فلما دخل عليه أبواه وإخوانه مصر قادمين من بلادهم قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ولم يقل: إذ أخرجني من غيابة الجب؛ حتى لا يُذَكِّرَ إخوانه بالذنب الذي صدر منهم، فقد وعدهم أنه لن يوبخهم ولم يؤنبهم، فلذلك قال: {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف:100]، ثم حمّل الشيطان التهمة كلها بقوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100].