ثم اتقِ أيضاً فحش الفاحش البذيء، فالناس ليسوا على شاكلة واحدة، فمنهم الصالحون ومنهم دون ذلك كانوا طرائق قدداً، منهم الذي يفهم وقد امتلأ ذكاء واستنارت بصيرته، ومنهم الجاهل الغبي الذي لا يفقه ولا يفهم، فجدير بك أن تتعامل مع هذا الجاهل بحذر، وأن تتقيه قدر الاستطاعة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة.
فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله! قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام؟! قال: أي عائشة! إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه)، فلم يدخل رسولنا معه في ثرثرات أو مجادلات لا فائدة فيها.
جاءه اليهود فقالوا: السام عليك يا محمد! -والرسول يعرف قولهم جيداً، فهم يعنون: الموت لك-، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم، فقالت عائشة رضي الله عنها: وعليكم السام واللعنة -وشق عليها ما ذكروه لرسول الله- فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة إن الله لا يجب الفحش ولا التفحش) قالت: يا رسول الله! أو لم تسمع ما قالوا؟!، قال: (قد علمت وقد رددت عليهم، فيستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا)، فالمداراة أصل، فبذيء الأخلاق يُتقى وينفرد عنه، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وهذه الآية لها مناسبة، فقد تلاها الحر بن قيس رضي الله تعالى عنه على أمير المؤمنين عمر لما جاءه عيينة بن حصن الفزاري -وكان من المؤلفة قلوبهم على عهد رسول الله- فجاء إلى ابن أخيه الحر بن قيس وهو من القراء الذين كان يدنيهم عمر منه، فكان عمر يقرب من مجلسه حملة كتاب الله، فيستشيرهم في مسائله، فكان الحر من هؤلاء الحملة لكتاب الله فقال: يا ابن أخي! إن لك وجهاً عند هذا الأمير -يعني: عمر - فاستأذن لي عليه، فاستأذن الحر بن قيس لعمه عيينة بن حصن الفزاري في الدخول على عمر، فأذن له عمر، فما هو إلا أن رأى عمر فقال له: يا ابن الخطاب! -بهذه اللهجة لهجة البدو الغلاظ الشداد- إنك لا تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فتعجب عمر من هذا الداخل بهذه الصورة الشديدة اللاذعة في الكلمات، فَهَمّ عمر أن يبطش به، فقال الحر بن قيس -وهذا من بركة كتاب الله وحمله-: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وهذا من الجاهلين، قال ابن عباس: فوالله! ما تخطّاها عمر ولا تعداها، كان وقّافاً عند كتاب الله عز وجل، فوقف عمر عند الآية ولم يتجاوزها، ولم ينزل بالرجل عقوبة، وقد أحسن في ذلك الصنيع، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد سمع أكثر من ذلك من عيينة بن حصن ومن غير عيينة بن حصن، ولم يؤاخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صدر منهم، وبما خرج من أفواههم من قبيح الحديث والكلام.