ثم قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] أي: في رجوعكم من عرفات اذكروا الله عند المشعر الحرام -وهو المزدلفة- وكما هو معلوم يشرع المبيت فيها إلى أن يسفر الصبح جداً، أما ذوو الأعذار فلهم أن ينطلقوا من المشعر الحرام فيتجهوا إلى منى بعد غياب القمر، كما أباح لنا ذلك نبينا محمد عليه الصلاة والسلام إذ قالت أسماء: إن النبي قد أذن للضعفة في ذلك.
وينبغي أن ينتبه الحاج إلى هؤلاء المطوفين الذين يسرعون في مرورهم من مزدلفة، فيأتون من عرفات يقفون فقط لالتقاط الجمرات من مزدلفة، ثم ينصرفون رأساً إلى منىً، هذا صنيع فيه ترك لواجب ألا وهو المبيت بمزدلفة، وعلى الأقل إلى غياب القمر، فهذا الذي رخص فيه النبي عليه الصلاة والسلام للضعفة من النساء أو لأصحاب الأعذار من الرجال، فجدير بك أن تنتبه لهذا؛ لأن كثيراً من أهل العلم يوجبون دماً على من لم يفعل هذا، وإن كانت المسألة فيها بعض النزاع.
قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198]، فتذكر نعمة الله عليك بالهداية في هذه الأماكن {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]، وفي تأويل الآية: أن القرشيين كانوا إذا حجوا، انطلق الناس إلى عرفات، وبقي القرشيون بمزدلفة ولم يتجاوزوها؛ لأنهم من الحمس -أي: من الأحمسيين- وليس لهم بزعمهم أن يتجاوزوها، قال جبير بن مطعم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفات، فقلت: ما لهذا يقف هذا الموقف وهو من الحمس؟! وكانت قريش تظن أن النبي صلى الله عليه وسلم سيتجه من منى إلى مزدلفة ولن يتجاوز مزدلفة بحال، فطفقوا يرقبونه، فلما تجاوز النبي صلى الله عليه وسلم مزدلفة متجهاً إلى عرفات تعجبوا من أمره! ولكن ذلك منه صلوات الله وسلامه عليه إمضاء لقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199].