لابد أن نحول هذه الأركان -أركان الإيمان- في حياتنا إلى واقع، فإن منَّ الله عز وجل بهذا الفكر، وردد لسانك وصدق قلبك، وترجمت جوارحك وأعمالك؛ فاستقم على هذا الدرب، واستقم على هذا الخير، وعلى هذه الطاعة، وعلى هذا النور.
أبشرك بقول الحافظ ابن رجب الحنبلي طيب الله ثراه، حينما قال: وأصل الاستقامة أن يستقيم القلب على التوحيد، فإن استقام القلب على التوحيد؛ استقامت الجوارح كلها على طاعة العزيز الحميد.
إن القلب هو الأصل، وبكل أسف يفرط كثير منا ومن طلاب العلم في التنقيب عن أحوال قلبه، فربما يغتر الطالب بتحصيله، ربما يغتر بمراجعه التي بين يديه في الليل والنهار، ولا يشعر بقسوة قلبه، أو مرضه أو غفلته، فكم من الناس مرضت قلوبهم في صدورهم وهم لا يشعرون! بل وكم من الناس ماتت قلوبهم في صدورهم وهم لا يشعرون! قال ابن السماك: كم من مذكر بالله وهو ناسٍ له! وكم من مخوف من الله وهو جريء عليه، وكم من مقرب إلى الله وهو بعيد عنه، وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ عن آياته! نسأل الله السلامة والعافية.
يقول أبو هريرة: [القلب هو الملك، والأعضاء جنوده ورعاياه، فإن طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا] وجاء من حديث النعمان في الصحيحين، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب) فإن الفتن أول ما تعرض -كما ذكرت- تعرض على القلب، فإن تشرب القلب الفتنة -والعياذ بالله- ثم تشرب الفتنة تلو الفتنة علا الران القلب، فحجب صاحب هذا القلب عن الله تعالى، قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:14 - 15] وقال صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض كالصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) أسأل الله جل وعلا أن يجعل قلوبنا من هذا النوع الكريم.
فأصل الاستقامة أن يستقيم قلبك على التوحيد، فإن استقام القلب على التوحيد نجوت، يقول ابن القيم طيب الله ثراه: التوحيد هو الإكسير الأعظم، الذي لو وضعت منه ذرة على جبال من الذنوب لأذابتها.
لكن بشرط أن تحقق التوحيد، وأن تجرده وتخلصه، ثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) وثبت في الصحيحين من حديث عبادة وفي رواية عتبان: (من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله دخل الجنة) وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة الطويل وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع نعليه لـ أبي هريرة وقال: اذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) فلابد من اليقين، وأن تجرد وتحقق وتخلص التوحيد لله جل وعلا.
هذا التوحيد إن زلت قدمك، وجذبت أشواك المعاصي ثيابك، فتبت وأنبت إلى الله سبحانه، وقابلت الله جل وعلا بهذا التوحيد الخالص، فهذا التوحيد يبدد ضباب الذنوب وغيومها، كما في حديث البطاقة الذي صححه شيخنا الألباني وهو حديث صحيح، يقول ابن القيم: السر الذي من أجله ثقلت بطاقة التوحيد، وطاشت السجلات في الكفة الأخرى، هو تجريد التوحيد لله جل وعلا.
وثبت في صحيح مسلم من حديث أنس، وفي سنن الترمذي واللفظ للترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
إنه التوحيد الخالص لله جل وعلا، لا تستهن بحقيقة التوحيد ولا بقدره، فلقد ظل النبي يعلم أصحابه التوحيد في مكة ثلاثة عشر عاماً، ولا تظنوا -أحبتي- أن النبي يوم أن انتقل إلى المدينة قد انتقل من التوحيد ليعلم الصحابة غير التوحيد، كلا! فإن التوحيد لا ينتقل منه إلى غيره بل ينتقل معه إلى غيره، وفي كل مرحلة من مراحل تأسيس النبي لدولة الإسلام ما أضاع التوحيد، ولا غيّب منهج التوحيد أبداً، لأننا نسمع الآن نغمة خبيثة تقول: ما الداعي لأن تدندنوا حول التوحيد، وأن تكثروا الكلام عن التوحيد، فإن النبي بدأ بالتوحيد لأنه بدأ في أمة مشركة، أما الآن فالأمة -ولله الحمد- أمة موحدة.
قلت: سبحان الله! أين القائل لهذا من واقع مر أليم تحياه الأمة، ففي كل عام يحج الملايين من أبناء الأمة إلى كثير من القبور هنا وهناك؟! أين التوحيد الذي يقال بأن الأمة قد دخلت قصره لا من أبوابه بل من نوافذه؟! فالتوحيد لا ينتقل منه إلى غيره، بل ينتقل معه إلى غيره.
أيها الحبيب: استقم على هذا الدرب: (قل آمنت بالله ثم استقم) قرأ عمر بن الخطاب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قرأها يوماً على المنبر فقال: [ثم استقاموا فلم يروغوا روغان الثعالب] عرفت فالزم، ذقت الحلاوة، ذقت طعم الإيمان؛ لأن للإيمان طعماً كما في صحيح مسلم، قال المصطفى: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً) هذا هو الذي ذاق طعم الإيمان، فإن ذقت طعم الإيمان فاستقم، لا ترغ روغان الثعالب -عافاني الله وإياك- استقم على هذا الدرب، على درب الإيمان، على طريق التوحيد، على طريق سنة النبي محمد، بفهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهم أفهم الناس لكتاب الله، وأعلم الناس بأسباب نزول الآيات على قلب رسول الله، فالزم هذا الدرب وسر عليه تفلح وتسعد في الدنيا والآخرة.