أيها الأحبة! فقه التغيير له ضوابط وشروط، إن غاب هذا الفقه ربما نقع في الكبيرة التي تلي الشرك بالله، ألا وهي قتل النفس التي حرم الله عز وجل، وهذا هو عنصرنا الرابع بإيجاز: حرمة الدماء.
فالدماء لها حرمة، وفي مثل هذه المسائل الكبيرة والنوازل الخطيرة راجع الربانيين من العلماء، راجع الربانيين من العلماء قبل أن تخطو على الطريق خطوة خطيرة، فالدماء لها حرمة، والله خلق الإنسان وكرمه غاية التكريم، نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأنزل وبعث له النبيين والمرسلين ليدلوه على الحق، وأنزل مع الأنبياء والمرسلين الكتب، ووضع الله له شريعة محكمة تضمن له السعادة في الدنيا والآخرة، تلك الشريعة التي تضمن حقوق الإنسان، وفي مقدمة هذه الحقوق حق الحياة، ولا يجوز ألبتة لأي أحد أن يسلب هذا الحق أو يستبيح حماه؛ لأن الله وحده هو واهب الحياة، وليس من حق أي أحد أن يسلب هذه الحياة إلا خالقها جل وعلا، أو في حدود الشريعة التي شرعها ليسعد بها الخلق في الدنيا والآخرة: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فالقتل كبيرة تأتي بعد الشرك بالله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70].
وتدبر معي هذا الوعيد، وأنا أقسم بالله على أنك لو فتشت في القرآن الكريم كله لن تجد وعيداً كهذا الوعيد في سورة النساء في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] أي وعيد هذا؟ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بسند صححه شيخنا الألباني من حديث معاوية رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو قتل مؤمناً متعمداً)، وفي سنن النسائي بسند صحيح من حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا).
ومن أعجب ما قرأت في هذا الباب ما رواه البخاري في التاريخ الكبير، والنسائي في السنن من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه -وصححه الشيخ الألباني في المجلد الثاني من صحيح الجامع- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمن -أي: أعطى الأمان- رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً)، هذا كلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم! الأمر دين، والدماء لها حرمة؛ لذا كانت أول ما يقضى فيه يوم القيامة، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى فيه يوم القيامة في الدماء)، ولا تعارض بين هذا وبين حديث أصحاب السنن من حديث أبي هريرة: (أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة)، فالصلاة حق الله، والدماء حق العباد، لا تعارض بين الحديثين، فأول ما يقضى فيه يوم القيامة بين العباد في الدماء، بل في سنن النسائي بسند حسن من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يجيء المقتول يوم القيامة تشخب أوداجه دماً -أي: تشخب عروق رقبته دماً- يدفع القاتل ليوقفه بين يدي الله وهو يقول: أي رب! سل هذا -أي: سل هذا القاتل- فيم قتلني؟!).
فالدماء لها حرمة عظيمة، ومن ثم فأنا أبذل هذه النصيحة من قلبي لأحبابي وإخواني.