أيها الأحبة: والله الذي لا إله غيره، لو ظللت الدهر كله أتحدث عن أخلاق رسول الله ما استطعت، ولكن لخصت عائشة الصديقة الحصان الرزان هذا الخلق العظيم في كلمات محددة فقالت: (كان خلقه القرآن)، فقد كان رسول الله قرآناً متحركاً بين الناس.
لقد جمع الله في شخص الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أشخاصاً متعددين كثيرين في آن واحد، انتبه معي أيها الحبيب: فهو رسول من عند الله يتلقى الوحي من السماء ليربط السماء بالأرض بأعظم رباط وأشرف صلة، وهو رجل سياسة من طراز فريد، يقيم أمة ودولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، تذل الأكاسرة وتهين القياصرة وتغير مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً، وهو رجل حرب من طراز أوحد، يقود الجيوش، ويخطط للمعارك، ويتخذ غرفة للعمليات عن بُعد من أرض المعركة.
وهذا لم يعلمه التاريخ إلا في قرننا الحالي، وقد فعله رسول الله في غزوة بدر، اتخذ غرفة للعمليات ليخطط فيها للمعركة وللحرب، وقام ليختار القادة، وليختار قائد الميمنة وقائد الميسرة، بل ولما افتضت الجموع في حنين قام الحبيب المصطفى رافعاً سيفه في ساحة الوغى، وميدان البطولة والشرف، ذلكم الميدان الذي تصمت فيه الألسنة الطويلة، وتخطب فيه السيوف والرماح على منابر الرقاب، وقف الحبيب المصطفى ليعلن بأعلى صوته قائلاً: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب).
وهو أب وزوج، ورب أسرة كبيرة تحتاج إلى كثير من نفقات الفكر، نفقات الشعور، نفقات التربية، نفقات النصح، فضلاً عن نفقات المال، فيقوم الحبيب المصطفى بهذا الدور على أعلى نسق شهدته الأرض وعرفه التاريخ.
وهو إنساني من طراز فريد، كأنه ما خلق إلا ليزيل الدموع، كأنه ما خلق إلا ليمسح الآلام عن القلوب، يمنح الناس وقته وفكره وعقله وماله ونصحه وروحه وشعوره، كأنه ما خلق إلا ليسعد الناس في الدنيا قبل الآخرة، وهو قبل كل ذلك وبعد كل ذلك فهو قائم على أشرف وأعظم دعوة شهدتها الأرض، أخذت الدعوة عقله وفكره وروحه بل ودمه، فيقوم المصطفى بهذه الأدوار كلها كأنه ما خلق إلا لكل دور من هذه الأدوار ليقوم به على أعلى نسق وأكمل صورة.
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم